تعقيباً على عمر كيلاني.. أيُّ فرُص للحل ضيّعها الفلسطينيون؟

تعقيباً على عمر كيلاني.. أيُّ فرُص للحل ضيّعها الفلسطينيون؟

30 اغسطس 2014

ياسر عرفات وأنور السادات في القاهرة (1977/أ.ف.ب)

+ الخط -

على النقيض مما خلص إليه الكاتب عمر كيلاني، في مقالته في "العربي الجديد" يوم 24 أغسطس/آب 2014، تحت عنوان "الفلسطينيون.. مائة عام في دوامة البحث عن حل"؛ لم يُضيّع الفلسطينيون أية فرصة حقيقة للحل المتوازن، أو العادل، لقضيتهم. وسأعرض، هنا، المحطات التي قيل، في كلٍّ منها، إن الفلسطينيين ضيّعوا الفرصة. وأتعجل القول باختصار، إن التناول المنهجي والحصيف لتاريخ فلسطين المعاصر، وتاريخ الصراع مع الصهيونية؛ يقدم لنا، من بين خلاصاته الكثيرة، حقيقة لا مراء فيها، هي أن تيار ما يُسمى "الاعتدال" هو الذي مُني بالهزيمة، وأن ما يُسمى التشدد لم يكن اللاعب الذي يقرر، لكي ينتصر أو يُهزم، بل هو لم يكن قائماً على أي حُكم في أي بلد عربي مجاور لفلسطين، أو قريب منها، لكي يكون سنداً لنضالات الشعب الفلسطيني، وسبباً في تضييع الفرض. فقد كانت رموز "الاعتدال" العربية هي التي تحسم وتقرر من دون أن تتلقى فرصاً حقيقية.

يتعجل كاتب هذه السطور تناول المناسبة الأبرز التي قيل، بعدها، إن الفلسطينيين ضيّعوا الفرصة، وكان في مقدورهم أن يهتبلوها، وأن يتحصلوا على الممكن والمتاح من حقوقهم، بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973. تلك هي محطة مؤتمر "مينا هاوس" في القاهرة (15/12/1977)، وأسهب بعدها الإعلام المصري في هجومه على منظمة التحرير، وعلى الفلسطينيين جميعاً، بسبب ما اعتبروه تضييعاً لفرصة الحل. وفي تلك الأيام، كان تعنيف الفلسطينيين وهجاؤهم اعتباطياً، ويتجاهل عن عمد وقائع معلومة.

إلياهو بن أليسار أول سفير إسرائيلي في القاهرة 

ففي يوم افتتاح المؤتمر، لمن تابع سير الافتتاح، كان رئيس الوفد الإسرائيلي، إلياهو بن أليسار، مُصراً على إزالة العلم الفلسطيني عن طاولةٍ، خُصصت صورياً لوفد يمثل منظمة التحرير.وعبثاً حاول الجانب المصري إقناع بن أليسار بأن الفلسطينيين لن يحضروا، وأن وضع العلم سيوحي أن لديهم فرصة وأنهم يضيّعونها. لكن بن أليسار رفض وجود العلم الفلسطيني من حيث المبدأ. ولنا أن نتصور لو أن ممثلي العلم حضروا. عندئذٍ، كان الوفد الإسرائيلي لمؤتمر "مينا هاوس" سيغادر القاهرة. وبمعيار المآلات، يمكن القول إن عدم حضور الوفد الفلسطيني، وعدم التماشي مع الرئيس أنور السادات، أتاح للراغبين في المضي في مشروع الصلح المنفرد، من المصريين والإسرائيليين، أن يواصلوا مسعاهم، لأنَّ مجرد الحضور الفلسطيني كان سيقطع المسار كله، ويُفشل المسعى. فالسادات ــ مهما قيل في تجربته ــ لم يكن سيمضي قدماً بدون الفلسطينيين، لو أنهم حضروا واستعدوا لعملية التسوية، لا سيما أن المعادلات لم تكن، آنذاك، قد بلغت من التردّي ما شهدناه في ثُلث القرن الأخير. أما انخراط الفلسطينيين في تلك العملية فلم يكن متاحاً البتة، بسبب ضغوط حافظ الأسد وحضوره المتداخل مع حضور منظمة التحرير وفصائلها في لبنان وحسب، وإنما، كذلك وأولاً، لأن "الليكود" الإسرائيلي، الحاكم آنذاك، لم يكن مستعداً، على الإطلاق، لقبول منظمة التحرير الفلسطينية شريكاً في عملية التسوية!

لم تكن ثمة فرصة في "مينا هاوس"، ولم يكن الفلسطينيون الوحيدين الذين استنكفوا، وإنما فعلت ذلك السعودية وسورية والأردن، التي وُضعت أعلامها من دون أن يطلب الوفد الإسرائيلي إزالتها. وكان الاستنكاف على أساس أن العملية السلمية بدأت مشوهةً كصلح منفرد، ولا تُرجى منها عملية سلام شامل.

في السياق، بعدئذ، كانت هناك المحاولة المصرية للتوصل إلى تسويةٍ على المسار الفلسطيني، وهو ما نصّت عليه الورقة الثانية من اتفاقات "كامب ديفيد"، وكان سقف المقاربة المطروحة للحل، "حكماً ذاتياً" للأراضي الفلسطينية، يُصار بعده إلى البت في الوضع النهائي. لكن، كان التفسير المصري للورقة الثانية من "كامب ديفيد" يختلف جوهرياً عن التفسير الإسرائيلي. وفي جولات المباحثاث حول هذا الأمر، في الإسماعيلية وبئر السبع وهرتسيليا، لم تتمكن مصر من التوصل مع حكومة مناحيم بيغن إلى اتفاقٍ حول ترتيباتٍ انتقالية في الضفة وغزة، لقيام الحكم الذاتي، إذ كانت الفجوة بين الطرفين واسعة، وفشلت المباحثات.

في الفترة من بدء الانتداب البريطاني على فلسطين (عام 1920) حتى إقامة دولة إسرائيل في عام 1948 كانت هناك محطتان، قيل إنهما فرصتان ضيّعهما الفلسطينيون. واحدة يمثلها صدور ما يعرف بـتسميته الدارجة "الكتاب الأبيض" عن بريطانيا في عام 1939، وهو في الأدبيات البريطانية يعرف بـ"وثيقة ماكدونالد" نسبة إلى وزير المستعمرات البريطاني، مالكولم ماكدونالد، الذي صدرت الوثيقة من وزارته وبإشرافه!

كانت تلك الوثيقة تعكس قناعة بريطانية مستجدّة، بلا جدوى تقسيم فلسطين وإقامة دولتين فيها. لذا، دعت الوثيقة إلى إقامة دولة واحدة، تشمل العرب واليهود المستوطنين، ويحكمها فلسطينيون ومهاجرون يهود، وفق نسبة عدد السكان في إحصاء عام، يجري بعد عشر سنوات، أي في موعد تطبيق بنود الوثيقة أو "الكتاب الأبيض". لكن الشعب الفلسطيني رفض الوثيقة، وتظاهر ضدها، لسبب جوهري، هو أن الوثيقة نفسها تسمح لليهود باستجلاب 75 ألف مهاجر جديد في السنوات الخمس الأولى، وعشرة آلاف مهاجر في كل عام من السنوات الخمس الثانية. في ذلك الوقت، جرى إقصاء قيادة المفتي الحاج أمين الحسيني واللجنة العربية العليا (السابقة على الهيئة العربية العليا).

مفتي القدس الحاج أمين الحسيني

فعلى اثر ثورة 1936، جرى تعقب الرجل، بسبب دوره منسقاً للجهود العربية والإسلامية لنُصرة القضية الفلسطينية، فلجأ إلى المسجد الأقصى، يتخذ منه مركزاً للقيادة، فأقاله البريطانيون من منصبه مفتياً في إطار سلطة الانتداب، ثم طاردوه فلجأ في عام 1937 إلى لبنان، ووقع في أيدي السلطات الفرنسية التي رفضت تسليمه للبريطانيين، وسمحت له بالنشاط حتى عام 1939، عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، وتشارك البريطانيون والفرنسيون في الحلف المضاد لألمانيا.

وفي السنة نفسها، وقبل اندلاع الحرب، وتحديداً في مايو/أيار 1939 أصدر البريطانيون "وثيقة ماكدونالد"، ولمّا كان قرار رفضها أو قبولها للمفتي زعيماً لحركة التحرر الفلسطيني، وليس لسائر أعضاء الهيئة العربية العليا التي تشكلت بعدئذٍ؛ فقد فاوض المفتي بريطانيا من الخارج، عبر هيئة الداخل، واشترط على سلطة الانتداب العفو عن الثوار المطاردين والمبعدين، وتغيير فقرات من شأنها أن تفتح المجال لمد فترة السنوات العشر الانتقالية، قبل قيام الدولة ثنائية القومية في فلسطين. وافقت بريطانيا على شطب فقرةٍ تفتح المجال للتمديد، لكنها رفضت العفو، في إصرارٍ منها على إقصاء قيادة الحاج أمين. وفي غياب التوافق، أعلنت بريطانيا عن عزمها تطبيق بنود الوثيقة من جانب واحد، وفرضها على الطرفين، بعد عرض الأمر على دورة الاجتماع المقبلة، لمجلس اللوردات البريطاني في شهر أغسطس. لكن، شهد ذلك الشهر اندلاع الحرب العالمية الثانية، فتوقف كل شيء. وبمنطق ما حدث في تلك المحطة، لم يكن الرفض الفلسطيني سبباً في تضييع فرصة!

جاءت نتائج الحرب العالمية الثانية كارثيةً بالنسبة إلى القضية الفلسطينية. فقد خرجت بريطانيا ضعيفةً ومدمرة، وفي أمسّ الحاجة إلى الأميركيين لإعادة الإعمار (وفق مشروع مارشال الأميركي لإعادة بناء ما دمرته الحرب).

كل شيء تداعى على الصعيد البريطاني، في السياسة والاقتصاد. تراجع الاسترليني وتقدم الدولار. عندئذٍ عملت الصهيونية الأميركية للاستفادة من ضعف بريطانيا، من خلال تسليم ملف فلسطين للأميركيين. ففي أعقاب الحرب، رضخ إرنست بيفن، وكان وزيراً لخارجية بريطانيا، لإلحاح الصهيونية الأميركية، في فتح باب الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وأعلن بنفسه عن السماح بهجرة اليهود، بعد أن استنفدوا حصتهم المقررة في "وثيقة ماكدونالد". ثم جاءت الخطوة الأخطر التي انتقلت بها المشكلة، من مستوى نزاع محلي بين قوميتين، أو عرقين، أو مشروعين داخل فلسطين في إطار انتداب بريطاني، إلى مستوى النزاع الدولي. بدأت الخطوة برضوخ بريطاني آخر، جرى بموجبه تشكيل وإرسال ما سمي "اللجنة الأنغلو ــ أميركية للتحقيق في فلسطين". ووضعت تلك اللجنة تقريرها الذي ألغت فيه قيود "وثيقة ماكدونالد" التي تمنع تملك اليهود مزيداً من الأراضي، وفتحت باب الهجرة. ولذرّ الرماد في العيون، وصف التقرير القوات المسلحة الصهيونية، المقدرة بـ61 ألف مسلح، بأنها بمثابة "جيش خاص وغير قانوني". واقترح التقرير حلولاً لدولة واحدة، لا يستقيم تنفيذها بعدالة، مع فتح باب الهجرة وباب شراء الأراضي من ملاكين لبنانيين وسوريين، باتوا في مناطق النفوذ الفرنسي، يواجهون عقبات التواصل مع ممتلكاتهم، وهم من ذوي النفوس المريضة، وممن جاءوا وترعرعوا وامتلكوا في كنف المستعمرين. ويجري تدويخ الفلسطينيين بالمقترح تلو الآخر، حتى انعقاد مؤتمر لندن حول فلسطين في 1947. يفشل المؤتمر فيعلن إرنست بيفن عن تقديم مشكلة فلسطين إلى الأمم المتحدة التي يُفترض أنها غير ذات اختصاص!

كلينتون وباراك وعرفات مع أرملة رابين في تأبينه في أوسلو (1999/Getty)

إحالة القضية إلى الأمم المتحدة أوصلت الأمور إلى صدور قرار التقسيم في نوفمبر/تشرين ثاني 1947. لم يكن ثمة قيادة فلسطينية، تضطلع بأي دور في تلك اللُجة. وكان اليهود يريدون من قرار التقسيم الفوز باعتراف الأمم بدولتهم المزمع إقامتها. كان القرار جائراً، يستفيد اليهود من رفض العرب له، ومن قبولهم به. كانوا في يوم التصويت على القرار يدفعون في الكواليس إلى إنجاحه، ويقدّمون الرشى لمندوبي دول صغيرة في أميركا اللاتينية، لكي تصوت مع المشروع، وفي الوقت نفسه، يعلنون رفضهم القرار لسبب أيديولوجي، يتعلق برؤيتهم الحدود القصوى لمشروعهم، ولا يريدون الالتزام بحدود خارطة التقسيم. ولما اندلعت الحرب، كان انتشار الجيوش العربية الضعيفة التي دخلت إلى فلسطين ينمُّ عن التزام بخطوط تلك الخارطة. وفي الأسابيع الأخيرة للحرب، انهارت الجيوش تاركةً أراض النقب وغيرها لليهود، وهي ضمن حدود الدولة الفلسطينية المقترحة. لم تكن ثمّة فرصة آنذاك. كان المشهد زاخراً بالأسرار وعلامات الدسائس والخيانات، وكان ذلك طبيعياً، لأن المنطقة كانت برمتها داخل النفوذ الاستعماري.

لم يكن هناك حديث عن فرصة للحل، من العام 1948 إلى العام 1993، إلا في مناسبتي "مينا هاوس" واتفاقات أوسلو. الأولى لم يكن فيها أية فرصة، وإن قيل الكثير خلاف ذلك. أما بالنسبة لاتفاقات أوسلو، فأمرها معلوم. انقلبت إسرائيل على الاتفاقات. وكان المنقلبون فريقين، الأول انقلب بالتفسير والتنفيذ، وهو حزب العمل الذي أبرمها مع منظمة التحرير، أما الثاني فهو نفسه الذي عارضها بشدة في وقت الإعلان عن التوصل إليها، وكان طبيعياً أن ينقلب عليها ليس بالتفسير والتلكؤ وحسب، وإنما كذلك بالإنكار وبالممارسة المضادة وبجرائم الحرب. فأية فرصة تلك التي ضيّعها الفلسطينيون للتوصل إلى حل للقضية؟ بل أية مائة عام تلك التي أمضاها الفلسطينيون يبحثون عن حل؟

دلالات