يبدو أن تراجع واردات الإعلانات، بسبب تداعيات الأزمة الاقتصادية التي تعيشها الجزائر في السنوات الأخيرة، أثّر بشكلٍ واضح على وسائل الإعلام في البلاد، غير أن تأثيرها كان أشد وضوحاً على الصحافة الورقية.
ومنذ عام 2014 الذي شهد تهاوي أسعار النفط في الأسواق الدولية، توقّفت قرابة 60 صحيفة، بين يومية وأسبوعية، عن الصدور، وفق أرقامٍ كشف عنها وزير الاتصال الجزائري، جمال كعوان، في أكتوبر/ تشرين الثاني الماضي. ومع ذلك، لا يزال عدد الصحف التي تصدر في الجزائر كبيراً نسبياً؛ إذ يبلغ 144 صحيفة.
ومع أن احتكار الدولة سوق الإعلانات، عبر "المؤسسة الوطنية للاتصال والنشر والإشهار"، ظلّ يثير انتقادات المهنيّين في المشهد الإعلامي الذين طالما طالبوها برفع يدها عن الإشهار، أو توزيعه "بشكلٍ عادل"، إلّا أن أرقام وزارة الاتصال تُوضّح أن عائدات الإشهار العمومي لا تُمثّل سوى ما نسبته 20 في المائة من إجمالي الإعلانات في الجزائر، وأن قرابة 90 في المائة منها تذهب إلى الصحف الخاصّة لا الحكومية. كما تُشير الأرقام نفسها إلى أن التراجع الذي شهدته تلك العائدات، في السنوات الأربع الماضية، بلغ أكثر من 60 في المئة.
لكن تلك الأرقام قد لا تُبرّئ السلطة تماماً من تهمة "الكيل بمكياليَن" التي تظلّ تُلاحقها حين يتعلّق الأمر بالإشهار الذي يعتقد كثيرٌ من ملّاك الصحف الخاصّة أن توزيعه يتمّ وفق "معايير غامضة"، إذ تستفيد منه مؤسسات خاصة محسوبةٌ على السلطة، وبينها صحف مجهرية وغير مقروءة، بينما تُحرَم منه صحف كبيرة تحسبها السلطة على المعارضة، وفقاً لهم.
كما تتهم السلطة بالتدخل في توجيه الإشهار الخاص أيضاً، حسب مزاجها السياسي. في نهاية 2014، اتَّهمت صحيفتا "الخبر" و"الوطن"، واسعتا الانتشار، وزير الاتصال السابق، حميد قرين، بالضغط على مجموعة من كبار المعلنين الخواص لقَطع الإشهار عنهما، مقابل حصولهم على تسهيلات وامتيازات من الدولة، بدعوى أن الصحيفتَين تعارضان نظام الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة.
واعتبرت أحزاب معارضة، حينها، أن ممارسات الوزير تؤكد أن سوق الإعلانات يُسيَّر "حسب الولاء للنظام"، ويعكس مدى الانحدار الذي وصلت إليه السلطات العمومية في التضييق على الحريات.
وكان لافتاً وصول الصراع بين "الخبر" ووزير الاتصال السابق إلى أروقة القضاء في 2016، بعد أن رفع الأخير دعوى أمام محكمةٍ إدارية للمطالبة بإبطال صفقة بيع أسهم الصحيفة التي تأسست مع بدء التعددية الإعلامية عام 1990، لرجل الأعمال الجزائري، اسعد ربراب، بحجة مخالفتها قانون الإعلام الذي يمنع امتلاك شخص واحد أكثر من وسيلة إعلامية، رغم أن رجل أعمال آخر محسوباً على السلطة، هو علي حدّاد، يملك 4 وسائل إعلامية تتمثل في صحيفتَين وقناتَين تلفزيونيتين.
رأى كثيرون في ذلك محاولةً من الوزير لوأد الصحيفة التي كانت تعيش وضعاً اقتصادياً صعباً. وبعد شدٍّ وجذب، أبطل القضاءُ الصفقةَ، فعادت الصحيفة إلى ملّاكها الأصليّين الذين اضطرّوا، تحت ضغط الإكراهات الاقتصادية، إلى إغلاق قناة تلفزيونية تابعة لمجمعهم الإعلامي.
ستُلقي الأزمة الاقتصادية التي تعيشها الصحف الجزائرية بسبب شحّ واردات الإعلانات بظلالها على وضعية الصحافيين الذين يضطرّ كثير منهم إلى انتظار رواتبهم لأشهر طويلة، وهو الوضع الذي يلخصه الصحافي في موقع "كلّ شيء عن الجزائر"، محمد إيوانوغان، بالقول إن الصحافي الجزائري "لم يعد يخاف من عدم العودة إلى أهله وهو يخرج في الصباح للالتحاق بالعمل، كما كان الأمر خلال سنوات الأزمة الأمنية. غير أنه ظروفه المهنية والاجتماعية المزرية ظلّت على حالها".
يشير تقرير أصدرته "شبكة الصحافيين الدوليين"، الثلاثاء الماضي، حول أجور الصحافيّين في البلدان العربية بين عامي 2007 و2017، إلى أن دخل الصحافي الجزائري هو الأضعف شمال أفريقيا، حيثُ يبدأ بقرابة 150 دولارا شهرياً، ويصل، في بعض الحالات، إلى قرابة 800 دولارٍ أميركي.
في حديثه إلى "العربي الجديد"، يؤكد إيوانوغان أن وضع الصحافيين الجزائريين الاجتماعي هو "الأسوأ بين البلدان العربية، باستثناء تلك التي تعيش حالة حرب، فراتب الصحافي المغربي، مثلاً، يفوق راتب نظيره في الجزائر عشرات المرات".
أمّا الصحافي في جريدة "الخبر"، محمّد سيدمو، فيضيف إلى مسألة تدني الأجور جملة من العوامل الأخرى التي تجعل وضع الصحافيين الجزائريين "مزرياً"، وفق تعبيره، من بينها "غياب التأمين والعطل، وتأخر الرواتب، والعمل تحت ضغوطات رهيبة تُعيقه عن أداء عمله وتدفعه إلى الاستسهال".
غير أن سيدمو يحمل الصحافيين أنفسهم جانباً من مسؤولية الوضع القائم، بسبب "عجزهم عن التكتّل في نقابة تحميهم وتجعل منهم قوة تفاوضية مع أرباب الصحف الذين لا تقل ممارسات بعضهم فداحةً عن ممارسات السلطة".
ويؤكد سيدمو صحة التقارير الدولية التي تضع الجزائر في مراتب متأخرة في حرية الصحافة، بالنظر إلى أن "السلطة تمارس كل أنواع التضييق لخنق العمل الصحافي ومنع معالجة الملفات المحرجة وإعاقة ازدهار الصحف"، معتبراً أن الإعلانات تشكل "أخطر أسلحة السلطة ضد الصحافة".
ورغم أن قانون الإعلام الذي صودق عليه في 2012، نص على تنصيب هيئة باسم "سلطة ضبط الصحافة المكتوبة" يفترض أن تتولى تنظيم مجال الصحافة الورقية والتكفل بانشغالات العاملين فيها، إلا أنها لم تر النور بعد. ومثل سابقه، لا يزال وزير الاتصال الحالي يردد أن تنصيبها سيتم "في وقت قريب".
يذهب إيوانوغان إلى أن "هذه الهيئة لن تنصب أبداً، لأنها تتطلب أحد أمرين: إما أن تكون مستقلة تضم صحافيين ينتمون إلى نقابات، وهو ما لا يتوفر حالياً في الجزائر، وإما أن تكون إدارية تابعة لوزارة الاتصال. وفي هذه الحالة، فإن أي وزير لن يرغب في تنصيب هيئة تتداخل معه في صلاحياته".
أما سيدمو فيرى أن تأخُّر تنصيب الهيئة "يعكس تردد السلطة في تطبيق قانون هي من سنّته". في ذلك، يضيف أن السلطة "عمدت إلى تمييع المهنة عبر ما سمي بطاقة الصحافي التي أدخلت المئات من الدخلاء إلى القطاع، ما زاد الوضع تعفناً".
ولا شك في أن لتراجع الصحافة الورقية علاقة بتصاعد الصحافة الإلكترونية، إذ تشير أرقام غير رسمية إلى أنها أصبحت الوسيلة الأولى التي يستخدمها الجزائريون للوصول إلى المعلومة منذ 2016.
غير أن الملاحظ هو أن واقع الأخيرة في الجزائر لا يتناسب مع "الانفجار الرقمي" الذي يشهده العالم، إذ لا يُحصي البلد سوى مواقع قليلة، معظمها تابع للصحف الورقية، وقليل منها يتسم بالجدية والمهنية. لكن أسوأ ما في الأمر، هو غياب إطار قانوني ينظم عملها، إذ لا يعتبر القانون، إلى الآن، العاملين فيها صحافيين، بدليل حرمانهم من حق الحصول على "بطاقة الصحافي".
هذا الوضع دفع قرابة 35 صحافياً من أصحاب المواقع الإلكترونية إلى التكتل ضمن "النقابة الوطنية لناشري الصحافة الإلكترونية"، قيد التأسيس، والتي تدعو إلى تسوية الوضعية القانونية للصحافة الإلكترونية، من خلال تطبيق المواد المتعلقة بالإعلام الإلكتروني في قانون الإعلام لسنة 2012.
تطالب النقابة، أيضاً، بفتح المجال أمام الصحافة الإلكترونية للوصول إلى المعلومة، والاستفادة من الإعلانات التي توزعها "المؤسّسة الوطنية للنشر والإشهار"، كما تقترح تأسيس صندوق لتطوير المضامين الرقمية الجزائرية.
يعتبر فيصل مطّاوي، رئيس تحرير النسخة العربية من موقع "كلّ شيء عن الجزائر"، في حديث إلى "العربي الجديد"، أن وضع وسائل الإعلام الإلكترونية في الجزائر أفضل منه لدى نظيرتها المكتوبة التي تعاني من تقلص سوق الإعلانات بقرابة 60 في المائة بسبب تباطؤ الحركة الاقتصادية من جهة، وتحول المعلنين إلى القنوات التلفزيونية الخاصة والمواقع الإلكترونية من جهة ثانية، ما أثر على سحبها وتوزيعها.
ويلفت مطّاوي إلى أن قانون الإعلام تحدّث عن الصحافة الإلكترونية، لكنه ترك تنظيمها للنصوص التنفيذية التي لم تصدر إلى الآن، مضيفاً أن النقابة الجديدة سلمت مشروعاً للوزارة، لتطبيق القانون، كي يتمكّن الصحافيون في المواقع الإلكترونية من العمل في إطار قانوني.