تداعيات "أوسلو" وسبل إنقاذ المشروع الوطني الفلسطيني

تداعيات "أوسلو" وسبل إنقاذ المشروع الوطني الفلسطيني

25 يونيو 2020
مسيرة في أريحا ضد مخطط ضم الضفة الغربية(عصام ريماوي/الأناضول)
+ الخط -
أقرّ المجلس الوطني الفلسطيني الأول، الذي عُقد في القدس في الثامن والعشرين من أيار/ مايو 1964م، "الميثاق الوطني الفلسطيني"، و"النظام الأساسي" لمنظمة التحرير الفلسطينية (م. ت. ف)، بوصفها الممثلة للشعب الفلسطيني؛ تقود كفاحه من أجل التحرير. وتجسّد المشروع الوطني الفلسطيني، في حينه، بتحويل اللاجئين الفلسطينيين، في الشتات وفي الأراضي المحتلة، شعبا واحدا منظما خلف قضية وطنية، وأصبح حق العودة مرتبطا بالتحرير بوصفه هدفا استراتيجيا.

ارتبطت حركة التحرر الفلسطينية بحركة التحرر العربية، وكانت الوحدة العربية طريقا للتحرير الممكن عبر حرب تخوضها جيوش الدول العربية ضد إسرائيل، لكن هزيمتي 1948 و1967 غيّرتا الأولويات فلسطينيا، على الأقل، وبدل شعار "الوحدة طريق التحرير" أصبح التحرير طريقا للوحدة. انطلق الكفاح المسلح باتجاه إسرائيل من أراض عربية؛ من الأردن، ثم لبنان، بينما حرصت دمشق على ضبط حدودها مع إسرائيل، ومنعت أي عمليات فدائية (مع استثناءات نادرة قبل توقيعها اتفاقية "فك الاشتباك" عام 1974). التناقض بين منطق الدولة ومنطق الثورة كان عاملا من عوامل الصدام بين حركة التحرر الوطنية والنظام الأردني (سبتمبر/أيلول 1970 – يوليو/تموز 1971)، وكانت العسكرة، وتحوّل قوات المنظمة لجيوش نظامية تحتك يوميا بالمواطنين، من بين عوامل ورطت الفلسطينيين في الحرب الأهلية اللبنانية (1975)، التي سبقها صدامات متكررة مع الجيش اللبناني، لينتهي الأمر بخروج معظم قوات الثورة الفلسطينية من لبنان باجتياح العام 1982، وانغلاق الأفق أمام مزاولة الكفاح المسلح.

مقدمات "أوسلو"
ما بين السبعينيات والتسعينيات، واجهت منظمة التحرير وفصائلها هزات متعاقبة في خضمّ تقلبات الوضع الإقليمي والدولي؛ خسارة قواعد ينطلق منها الكفاح المسلح؛ مجزرة صبرا وشاتيلا، والحرب ضد المخيمات الفلسطينية 1985-1986؛ الانتفاضة الأولى في الضفة الغربية وقطاع غزة في أواخر 1987؛ اقتحام الإسلامُ السياسي المجالَ السياسي الفلسطيني (1988)؛ سقوط الاتحاد السوفييتي أواخر العام 1989 وتهاوي المعسكر الاشتراكي؛ حرب الخليج في (1990-1991) التي وضعت حدا نهائيا لمفهوم التضامن العربي بمشاركة دول عربية في حلف دولي ضد العراق؛ عقاب المنظمة وقيادتها على انحيازها للعراق بحصارها ماليا وسياسيا، لتخسر تحالفاتها وكثيرا من مصادر دخلها.

لم يعد الكفاح المسلح أحد مكونات المشروع الوطني الفلسطيني الذي تعزز تمحوره حول فكرة "الدولة" كما طرحها البرنامج المرحلي عام 1974. لاحقا، سيبدو أن هناك تناقضا بين المقاومة المسلحة والعملية السياسية، مع ذلك استمر الكفاح المسلح نهجا لفصائل من خارج منظمة التحرير الفلسطينية ("حماس" و"الجهاد الإسلامي") وبدا أنه ليس موجها نحو إسرائيل وحسب بل أيضا ضد العملية السياسية. كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى قد انطلقت العام 1987 كأسلوب فريد في النضال الجماهيري الفلسطيني، لكن أنفاسها بدأت بالتقطع مع انطلاق مؤتمر مدريد للسلام في أكتوبر/تشرين الأول 1991 الذي أقصيت عنه منظمة التحرير الفلسطينية، وشارك الفلسطينيون بوفد مشترك مع الأردن، قاده فلسطينيون من الأراضي المحتلة. ورغم تنسيق قيادة المنظمة مع الوفد الفلسطيني لمفاوضات مدريد، خشي عرفات أن يتحول الوفد بقيادة حيدر عبد الشافي إلى قيادة بديلة، قياسا على ما حصل مع سعد زغلول وحزب الوفد في مصر، ليدخل في مفاوضات سرية مع الحكومة الإسرائيلية تمخّض عنه اتفاق "أوسلو1" أو اتفاق "إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي".

مخرجات أوسلو: فشل مشروع "الدولة"
تمكّنت القيادة الفلسطينية من مركزة القرار الفلسطيني بيدها، ووقَّعت اتفاقا سريا مع إسرائيل تم الإعلان عنه دون مشاورة القوى السياسية والمجتمعية داخل الأراضي المحتلة وخارجها، وبرر أوسلو تهميش المؤسسات الوطنية الفلسطينية، المجمع عليها فلسطينيا، لصالح السلطة الوطنية وصلاحياتها المحدودة بالمساحة الجيوسياسية المتاحة لها بموجب "أوسلو"، الذي همّش أيضا الفلسطينيين داخل ما يسمى الخط الأخضر، وترك فلسطينيي الشتات بلا تمثيل حقيقي، بتهميش ممثلهم؛ منظمة التحرير الفلسطينية.

لم تندمج "حماس" في الجسم السياسي الوطني، وفشلت في إعادة تعريف نفسها كحركة وطنية. انسداد الأفق أمام مشروع إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة فعلية في الضفة والقطاع عنى فشلا لمروجي ذلك المشروع، مما مكن "حماس" من الفوز بانتخابات المجلس التشريعي سنة 2006، وفرض سيطرتها الكلية على قطاع غزة بانقلاب مسلح العام 2007، لتنقسم سلطة الحكم الذاتي إلى سلطة على أجزاء من الضفة الغربية وأخرى في القطاع، وكلاهما محتلٌ وخاضع لسيطرة إسرائيل. انتهت حماس إلى ما انتهت اليه "فتح" بالتخلي عن استراتيجية الكفاح المسلح، لصالح مشاريع الهدنة، وانتقلت من الفعل إلى رد الفعل، وبات مشروعها الدفاع عن مواقعها وحيازتها للسلطة حتى إشعار اخر.

تفكّك الحقل السياسي الوطني، وتلاشي المؤسسات الوطنية المُمثِّلة للكل الفلسطيني، أديا إلى سيادة النخب السياسية المحلية، ولم تستمد السلطة الوطنية شرعيتها من الداخل الفلسطيني، بقدر ما استمدتها من اعتراف الدول الإقليمية والعالمية والهيئات الدولية بها والتعاطي معها دبلوماسيا، وهيمن خطابٌ، محلي وإقليمي ودولي، يختزل فلسطين في الأراضي المحتلة عام 1967، ويختزل الشعب الفلسطيني في أولئك الرازحين تحت الاحتلال الإسرائيلي. تمتعت الأجهزة الأمنية بثقل خاص في الضفة الغربية وقطاع غزة، من حيث عديدها ونصيبها من الميزانية العامة. وترسخت السمة الريعية للسلطتين باعتمادهما على المساعدات والتحويلات الخارجية، وسيطرت طبقة وسطى جديدة توسعت باستمرار مع الحاجة لإدارة أجهزة السلطتين اللتين تحملتا مسؤوليات التعليم والصحة والأمن وغيرها من القطاعات، تم ذلك على حساب الطبقة العاملة وإنتاجيتها، مما أدى أواخر التسعينيات إلى تفاقم البطالة، ومظاهر عدم المساواة بين فئات الشعب الفلسطيني. لم تعد سلطتا غزة ورام الله معنيتين بالكفاح ضد الاحتلال بقدر ما انشغلتا في تعزيز موقعيهما وتحسين شروط بقائهما، مما ترك التجمعات الفلسطينية في الأراضي المحتلة (في العام 1948 والعام 1967 سواء بسواء) مكشوفة أمام إجراءات التمييز والبطش الإسرائيلية بشكل متزايد، وتفاقمت أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في الشتات بعد انكشاف وهم مركزية قضيتهم، في لجّة الحروب الأهلية التي شهدتها بلدان اللجوء بعد إخفاقات الربيع العربي، تحت وقع قمع الأنظمة العربية، وإيقاع الثورات المضادة.

"أوسلو" إسرائيلياً
شكّل "أوسلو"، بوصفه مشروعا لليسار الصهيوني، ضربة للمشروع الأيديولوجي لليمين العلماني ممثلا في "أرض إسرائيل"، حين أسس لفكرة حل الدولتين، وتهديدا لتصورات اليمين الديني المسيانية، التي رأت في السيادة اليهودية الكاملة على الضفة الغربية وقطاع غزة تأكيداً لتصوراته نحو الخلاص. مع عدم اعترافه بـ "أوسلو" أيديولوجيا، حوّل اليمين "روح أوسلو"، الذي أراد من خلاله الإيهام بحيازته نوايا سلميّة وتصالحيّة، إلى وسيلة جديدة أكثر إحكاماً لمواصلة الاحتلال في أراضي العام 1967 وشرعنته تكريسا للوضع القائم. ومنذ صعوده العام 1996، استطاع اليمين في إسرائيل تعطيل الاتفاق دون إبطاله، وتوقف أوسلو عند النقطة التي وصل إليها منذ أن وقّع نتنياهو، مكرها خلال ولايته الأولى، على اتفاق الخليل في يناير/كانون الثاني 1997، ليستمر خطاب اليمين الإسرائيلي بالادعاء أن ليس هناك من احتلال، بعد أن جسدت السلطة الوطنية الفلسطينية عمليا كامل حقوق الفلسطينيين السياسية. واستمرت حكومات نتنياهو طوال 14 عاما بضم الأراضي الخاضعة للسلطة الفلسطينية تدريجيا، وبهدوء دون مواجهة احتجاجات عنيفة من المجتمع الدولي، أما إجراءات الضم الدراماتيكية، المعلنة تحت غطاء صفقة القرن الأميركية، والمقرر البدء بتنفيذها اعتبارا من مطلع يوليو/تموز القادم، لأجزاء واسعة من الضفة الغربية، بما فيها وادي الأردن، فستكون في حال المضي فيها قدما المسمار الأخير في نعش حل الدولتين، تاركة للفلسطينيين ما هو أقل من سلطة حكم ذاتي.

نحو إنقاذ المشروع الوطني
يوما بعد يوم يصبح المشروع الوطني الفلسطيني أكثر ضبابية؛ هل يتمثل هذا المشروع في التحرير والعودة؟ أم في حق تقرير المصير وحق العودة وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967؟ أم دولة واحدة ثنائية القومية أو غيرها مما يشتق منها من صيغ؟ أم لم يعد أمام الفلسطينيين سوى الاستسلام للأمر الواقع؟

كان من تبعات "أوسلو" تراجع الحركة الوطنية الفلسطينية، واختزال المشروع الوطني في سلطة فلسطينية لا تتعدى حكما ذاتيا تحت الاحتلال، من هنا لا تتعلق مراجعة "أوسلو" بحيثيات الاتفاقيات وتفاصيل بنودها، بل أيضا بمراجعة الحركة الوطنية الفلسطينية بكافة مكوناتها وأساليب عملها، لإعادة إنتاج مشروع وطني يجمع عليه الفلسطينيون.

واليوم، هناك في الساحة الفلسطينية طروحات عديدة على هذا الصعيد، منها دعوة قيادتي "فتح" و"حماس" للتخلي عن فكرة السلطة. وقد هددت قيادة السلطة في غير مناسبة بحلّ السلطة الوطنية الفلسطينية، لكن البعض يطالب بحلّ السلطة، لا بوصفه ورقة ضغط تفاوضية، بل خيارا واقعيا للخروج من الأزمة التي تسببت بها السلطة الفلسطينية نتيجة ارتهانها للاتفاقيات الأمنية والاقتصادية والسياسية الموقّعة مع إسرائيل، وخضوعها لضغوط الولايات المتحدة والدول المانحة.

هذا الطرح مشروع من حيث المبدأ، لكن البعض يجادل متسائلا عن البديل الوطني الذي سيملأ فراغ حل السلطة، ومن الناحية الإجرائية القانونية تمثل منظمة التحرير الجهة المخولة بحلّ السلطة، إذ خوّل المجلس المركزي الفلسطيني في أكتوبر/ تشرين الأول 1993 لجنتها التنفيذية بتشكيلها، لكن بعد تشعّب السلطة، وتضخم مؤسساتها وأجهزتها البيروقراطية، باتت عصية على الإلغاء بقرار من المنظمة المعطلة فعليا. ويشكك هؤلاء بأن تقدم قيادات السلطة على حلّها طواعية، وفي حال حلّ السلطة (أو انهيارها) فقد تعمد إسرائيل إلى ضم ما تراه استراتيجيا من أراضي السلطة (هذا متضمن في خطة الضم المعلنة في كل حال) وتبحث عن اشخاص يتولون سلطة موالية لها (لن تعدم إيجادهم)، أو قد تتحول أراضي السلطة إلى كانتونات منفصلة خارج السيطرة الإسرائيلية المباشرة يسيطر على كل منها مليشيا مسلّحة، وهو أمر ستباركه إسرائيل. وقد تعلن "حماس" في غزة نفسها سلطة وطنية وحيدة على أرض محررة، وذلك يعني تجسيدا لهدف رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، آرييل شارون، الذي تمثل في دولة فلسطينية بحدود مؤقتة، أرادها بانسحابه من غزة العام 2005.

ومن الناحية الإجرائية والوظيفية، تشكل السلطة عنواناً لمختلف الشؤون التنظيمية والخدمية والدبلوماسية، وإلغاء هذا العنوان سيكون قفزة في المجهول. وبديلا عن حلّ السلطة، يطرح البعض إصلاحها وتحويلها الى سلطة وطنية مقاتلة كما طرحت أول مرة في البرنامج المرحلي العام 1974، ولكن الفاعلين الدوليين والإقليميين لن يسمحوا بذلك، وقد يتكرر ما حدث مع الراحل ياسر عرفات حين حاول تغير المسار بهذا الاتجاه. هذا الطرح الأخير يشبه طرحا آخرا يتعلق بإصلاح منظمة التحرير، وإعادة تفعيل دور المجلس الوطني الفلسطيني، لكن هذه الطروحات وأشباهها باتت مرهونة بصعود نخب وطنية جديدة لديها رؤى وتصورات وأساليب عمل مغايرة للأساليب التقليدية التي تأسست عليها، ونهضت من خلالها، المؤسسات الوطنية الفلسطينية. إن أي محاولة لإنقاذ المشروع الوطني الفلسطيني من براثن أوسلو تتطلب بلورة وعي سياسي جديد ينتج أساليب تنظيمية اجتماعية سياسية ذاتية تراعي خصوصية ثلاث دوائر تقع ضمن الدائرة الفلسطينية الجامعة، والإيمان بحق كل دائرة، وواجبها أيضا، المشاركة في نقاش ينطلق حول السياسات الوطنية وصياغتها، ويحق لكل دائرة تقرير استراتيجيتها وفق ظروفها الخاصة، على ان تتكامل هذه الاستراتيجيات لاحقا لتلتقي في استراتيجية فلسطينية جامعة.

خَبِرَت دائرة الأراضي المحتلة العام 1967 الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الأولى، التي تناسبت وإمكانيات الشعب الفلسطيني، والظروف الإقليمية والدولية القائمة، ففضحت همجية إسرائيل ولجمت آلتها العسكرية، وقننت كفاح الشعب الفلسطيني، وكان بالإمكان أن تحقق نتائج أكثر فعالية في مواجهة المشروع الصهيوني لولا استثمارها الهزيل من قبل قيادة المنظمة. هذا النموذج يمكن أن يكون خيارا شعبيا في مواجهة "صفقة القرن"، وخطة الضم الإسرائيلية المعلنة، وعلى غرار "القيادة الموحدة للانتفاضة" (قاوم) التي تشكلت إبّان تلك الانتفاضة الأولى ولجانها، يمكن تشكيل هيكلية مماثلة تعمل على إعادة تفعيل وتنظيم النضال الشعبي الفلسطيني، وإدارة النقاش السياسي.

في دائرة ثانية؛ في الأراضي المحتلة العام 1948، نلمس تبلور وعي سياسي جديد في خضم الحراك السياسي، استطاع فضح الصهيونية كأيديولوجيا عنصرية، ونظام "أبارتهايد" يستحيل التعايش معه. وتمثل لجنة المتابعة العليا لإدارة شؤون المجتمع المحلي والدفاع عنه نموذجا اجتماعيا سياسيا للتنظيم الذاتي وإدارة المجتمع الفلسطيني والدفاع عن حقوقه داخل الخط الأخضر. أما دائرة فلسطينيي الشتات - وهي الدائرة الثالثة - الذين أُقصوا من التمثيل والمشاركة السياسة، فيجب أن يستعيدوا حقّهم في المناقشات السياسية والوطنية، وينبغي بشأنهم إطلاق مبادرات، على صعيد كل تجمع من تجمعاتهم، لتشكيل أطر محلية تتولى قيادتها، تترك الباب مفتوحا لأكبر قدر ممكن من المشاركة السياسية. هنا تبرز حركة المقاطعة (BDS) نموذجا يحتذى كنموذج سياسي اجتماعي تنصهر من خلاله توجهات وهيئات ولجان مختلفة لتتوحد خلف استراتيجية واحدة.

قد لا تكون الظروف الدولية والإقليمية مواتية الآن لإنشاء كيان سياسي فلسطيني بديل، يكون حاملا اجتماعيا سياسيا للمشروع الوطني الفلسطيني، لكن تلك النماذج الاجتماعية السياسية الحامل الجدي للمشروع الوطني الفلسطيني، قد تمهد الطريق نحو ذلك الهدف، وتفرض الاعتراف به.