تاكويا الياباني ومستر سيسي

23 سبتمبر 2014
+ الخط -

"وماذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا... بها نبطي من أهل السواد يدرس أنساب أهلا الفلا.... وأسود مشفره نصفه يقال له أنت بدر الدجى"، تطاردني كلمات وأبيات أبي الطيب المتنبي، كلما حاضرت عن مصر.
حين أدخل المحاضرة في جامعة "جون هوبكنز"، أسأل الطلاب عن أخبار الأسبوع الفائت في مصر، فتأتي الإجابات كما هي العادة: مفزعة ومتشائمة، ولا تخلو من عجب وسخرية. أصمت، أحاول أن أخفي مرارتي، حتى لا أفقد موضوعيتي، وامتص غضباً متراكماً فى النفس، محاولاً الابتعاد، قدر الإمكان، عن السقوط في فخ "التحيز"، أبحث عن الجانب الآخر للصورة: التحليل والنقاش المعمق. أبحث عن زوايا جديدة، أهرب بها من سخافة الوضع، لكن لا مفر. فعندما يبدأ طالب بالحديث متعجباً ومتهكماً من أحكام "الإعدام بالجملة" التي تصدر عن القضاء، ويرد آخر بارتفاع حالات التحرش التي تتعرض لها الفتيات والسيدات في مصر، وتستعرض طالبة أوضاع الأسر التي سوف يتم تهجيرها من قراهم ومنازلهم، من أجل توسعة المجرى الملاحي لقناة السويس، والتي يتم التعمية عنها حتى لا تفسد فرحة "المشروع القومي" للجنرال، يصبح الشرح والتوضيح بلا معنى.
تعلق طالبة على ملف النشطاء السياسيين المعتقلين على ذمة قانون التظاهر، سيئ السمعة، وتستعرض قرائن المحكمة الهزلية لعلاء عبد الفتاح وزملائه، تشعر بالخجل وهي تتحدث عن "أسطوانة" الأدلة التي جرى فيها عرض مقاطع من الحياة الخاصة لعلاء وأسرته. تحمر وجنتاي من الخجل، وينعقد اللسان عن التعليق، ولا يقطع هذا السكون سوى خبر هزلي آخر يتناول "طابع البريد" التذكاري الذي صدر بمناسبة القناة الجديدة، ولكنه يحمل صورة "قناة بنما"، بدلاً من قناة السويس. قمة الهزل والمأساة، ينفجر الطلاب ضاحكين، وأنا معهم، ولكن ضحكي كالبكا، كما قال أبو الطيب.
يأخذنا طالب آخر إلى خبر جديد، أكثر هزلاً وسخرية، وهو خبر اختطاف قائد الأسطول الأميركي السادس على أيدي الجيش المصري أثناء وقوع مذبحة ميدان رابعة العدوية. يا إلهي!! أما لهذا القاع من آخر؟ أتساءل فى نفسي، كاتماً غيظاً يكاد ينفجر فى وجوه الطلاب، ولكني أعود، فأبتسم وأضيف متهكماً: نعم، كل شيء وارد في مصر، ولم لا؟ أليس أوباما، حسب ما ادعت صحيفة تنتمي لأكبر حزب معارض فى مصر، عضواً فى جماعة "الإخوان المسلمين"؟! قلتها فعجّت القاعة بضحك هيستيري من فرط الهزل والمفارقة.

أحاول أن أبحث عن معنى ومنطق لما يحدث، فلا أجد. أسترجع شريط الأعوام الثلاثة الماضية، فأجدها مليئة بالتفاعلات والتناقضات، انتقلت خلالها البلاد من النقيض إلى النقيض. أحاول أن أبحث عن تفسيرٍ منطقيٍّ وموضوعيٍّ، للتقلب السريع من أهازيج الحرية فى "ميدان التحرير" إلى "صرخات التفويض" المشؤومة في الميدان ذاته. أين ذهبت الثورة؟ وماذا حدث لرفقاء الميدان؟ وهل كانت حقاً ثورة؟ لا يخرجني من تأملاتي وصمتي سوى سؤال من طالب آخر عن سر عشق المصريين للحاكم القوي والزعيم الملهم، ويسأل ما إذا كان للموضوع علاقة بالثقافة الفرعونية العتيقة؟ أجاوبه مطالباً بعدم الوقوع فى فخ التفسير الثقافي "المعلب" للشعوب، لكني أعود بالذاكرة للوراء، أستعرض التاريخ البعيد والقريب لمصر، فأجد أن الدعة والسكون وقبول الاستبداد هو الأصل، والثورة والانتفاض هما الاستثناء. أتذكر، حينها، مقولة جمال حمدان عن اعتدال الشخصية المصرية التي يحاجج فيها بأن "المصري معتدل بطبعه"، قبل أن يستدرك ليضيف، لكنه اعتدال متطرف أشبه بسكون الموتى. أنقل لهم نظرية حمدان وكلماته، حين يقول "مأساة مصر في هذه النظرية هي الاعتدال، فلا تنهار قط، ولا هي تثور أبداً، ولا هي تموت أبداً، ولا هي تعيش تماماً، إنما هي في وجه الأزمات والضربات المتلاحقة تظل فقط تنحدر وتتدهور، تطفو وتتعثر، من دون حسمٍ، أو مواجهة حاسمةٍ، تقطع الموت بالحياة، أو حتى الحياة بالموت، منزلقة أثناء هذا كله من القوة إلى الضعف، ومن الصحة إلى المرض، ومن الكيف إلى الكم، وأخيراً من القمة إلى القاع".
وهل بعد عبد الفتاح السيسي قاع؟ أطرح عليهم السؤال، فيجيبني تاكويا، وهو طالب ياباني نابه زار مصر الصيف الماضي، وقضى أياما بأحد فنادق وسط البلد، ويقول: "لكن الناس تحب مستر سيسي". فأتمتم قائلاً: وهذا هو أصل المشكلة. فحين تصطف النخب السياسية والثقافية والإعلامية خلف "المايسترو" يحركهم بعصاه، فلا تتعجب إذا رقصت له النساء والفتيات، وانحنت له الرقاب، فالشعوب على دين ملوكهم ومثقفيهم وإعلامهم.

A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".