بين الحداثة والتطرف

03 مايو 2015
+ الخط -
الربط بين التنظيمات المتطرفة والحداثة، الذي يروجه بعض الدعاة، ويثير الحساسية لدى كثير من المتبنين لقيم الحداثة ومناهجها في التفكير والنقد والنظرة للكون والمجتمع، ينبغي أن يوضع هذا الربط في موضعه الصحيح، وأن يتم التعامل معه بما يقتضيه من موضوعية علمية.

لا يمكن فصل هذا الربط عن ما  يتضمنه من خصومة فكرية وسياسية، بين من يروجون له، ومن يرفضونه؛ فالفلسفات والجماعات والتنظيمات، لا تقوم على فكرة أو فكرتين، بل تقوم على منظومة متكاملة من الأفكار، حتى وإن كان من الممكن نقدها أو نقضها، لكنها على الأقل تكون على هذا النحو في تصور أعضائها أو المؤمنين بها؛ ومن ثم يمكن أن تنسحب الكثير من الأوصاف السلبية على أي فلسفة أو تنظيم أو جماعة؛ إذا توجه النقد لإحدى أو بعض أفكارها، ثم تم التعامل على أن هذا الجانب فقط هو المعبر عن بقية المنظومة الفكرية أو يمثِّل أساسها.

الربط بين الحداثة والتنظيمات المتطرفة، ليس جديدًا، بل إنه، في الحقيقة، يتضمن الكثير من الوجاهة، إن نظرنا إلى الجانب الذي تسلل منه هذا الوصف، ألا وهو "القطيعة مع التراث"، حتى وإن تُوُهِّمَ استحضارُه؛ لأنه في حالة استحضار التراث دون الأخذ في الاعتبار، لعدة عناصر مهمة في هذا الاستحضار، فإن المحصلة تكون في النهاية قطيعة مع الإدراك الحقيقي لروح هذا التراث ومناهجه وأدوات وآليات فهمه وتفعيله في الواقع.

هذا بالضبط ما تقوم به الجماعات المتطرفة، حين تظن أنها تُفَعِّلُ التراث عبر اللجوء إليه مباشرة، بالعودة مئات السنين؛ لكي تنظر فيه وتستخلص منه أحكامًا تطبقها في هذا الواقع، لكن حقيقة ما تفعله، أنها ترتكب عدة أخطاء منهجية تنسف الغاية التي أرادت تحقيقها، على افتراض حسن النية في الفعل الذي تقوم به، فهي لا تلجأ لكل التراث، بل لخطٍّ هامشيٍّ فيه، وتجعله التيار الرئيسي في التراث، الذي ينبغي أن يكون محور النظر، مع أنه لا ينبغي أن يكون كذلك، والصواب أن يظل في موضعه الهامشي، يقدم أحيانًا بعض الإفادات العظيمة، في مساحات فقهية وعلمية مختلفة، بحسب قبول التيار الرئيسي لها، واتساقها مع قواعده ومناهجه. وتخطئ أيضًا حين تهمل التراث الفعلي للأمة المتمثل في المذاهب الفقهية والعقيدية التي ارتضاها السواد الأعظم من المسلمين عبر مئات القرون، وما اشتملت عليه من تراكم علمي ومعرفي، هذا التراكم هو الذي يفسر التراث، وينقله من كونه تراثًا منفصلا عن الواقع، إلى منظومة فكرية، تحمل وصف "التراث" لتقادم العهد بها فقط، لكنها، فعليًّا، منظومة حية متفاعلة مع الواقع ومتغيراته.

هذه الأخطاء من قِبَلِ المنتسبين لجماعات التطرف والخروج عن التيار الرئيسي للأمة، تجعل ما تفعله قطيعة مع التراث، وفردية وذاتية في تفسير نصوص دينية، وإنشاءَ قيمٍ معينة تُنْسَبُ إلى الدين، بشكل يكاد يتطابق مع منهجية الحداثيين الذين يقيمون مع التراث قطيعة، وفردية وذاتية في طرح رؤى فلسفية للكون والحياة، وإنشاءً لقيم إنسانية معينة، يزعمون أنها فطرية، أو هكذا ينبغي أن تكون، ومن ثم لا ينبغي لأي دين أن يتعارض معها على النحو الذي يفهمونه!

هذا هو موضع الاتفاق بين الفريقين على الرغم من أن النتيجتين في الغالب على طرفي نقيض، وإن ظاهريًّا، لأنهما قد يتشابهان، فعليًّا، في نتائج أخرى من السعي نحو السيطرة والهيمنة والقتل وتبديد الثروات والموارد الطبيعية والإنسانية.

الأغرب أن من يتولون كِبْرَ هذا الطرح بالربط بين التطرف والحداثة ويروجون له في وسائل الإعلام المختلفة، لا يكادون يسلمون من انغماسهم في استخدام أنماط حداثية؛ من أجل الترويج لسلطات قمع وفساد واستبداد، وإهلاك للبشر وعصف بالقيم الإنسانية والدينية، وبالتالي يمكن أن يتم الربط بين الوسطية، التي يزعمون، والحداثة، التي يكرهون؛ والحق أن المطلوبَ نظرةٌ تراحمية تنتشل الأوطان والشعوب من نُذُرِ كوارث تلوح في الأفق القريب، نظرةٌ ثم فعلٌ ينقذ الجميع من روح البغي والعدوان التي تدور بينهم في دائرة صراعية لا تنتهي.

نصحت ونحن مختلفون دارًا.... ولكن كلنا في الهم شرق

أحمد خلف (مصر)
أحمد خلف (مصر)