فسادهم يقتلنا. قالها أحدهم معلقاً على انفجار بيروت ودمارها، ورددها جميع اللبنانيين مضيفين إليها الكثير من الشتائم لكل المسؤولين الذين تعاقبوا على حكم لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية حتى اليوم. وحدهم هؤلاء من يتحملون وزر المجزرة. هي مسؤولية شاملة لا تستثني أياً منهم، يعتاشون على الفساد والمحاصصة في كل مفصل في هذه الدولة. لا يعرفون سوى الاستعراض الإعلامي والارتجال والتنصل من المسؤولية. لا يملكون جرأة قول الحقيقة، وبشكل أدق لا يريدون قولها. يكتفون بالإعلان عن لجنة تحقيق وحالة الطوارئ من دون توقيف أي مسؤول. يتباهون بامتلاكهم الملفات بعضهم ضد بعض لكنهم لا ينشرون فضائحهم إلا إذا اختلفوا على تقاسم صفقة أو عمولة وبعدها تختفي. يحمون صغار الموظفين وكبارهم ويقبضون ثمن ذلك رشى ويراكمون الأموال المنهوبة. أما أهل هذا البلد فلا ينالون سوى المصائب. متروكون لوحدهم يحاولون لملمة جراحهم وانتشال الضحايا والبحث عن مفقودين.
بيروت مدمرة اليوم. أحياؤها كتلة خراب. لم ينجُ منزل واحد، حرفياً، من تداعيات انفجار المرفأ. مدينة منكوبة... مدمرة... محترقة، مجرد توصيفات لا تفي لوصف حجم الكارثة. وما جدوى التوصيفات والمقارنات في مدينة سكنتها الاغتيالات والتوترات الأمنية وكأنه قدرها وسيبقى يطاردها حتى يأتي ذلك اليوم الذي تقتلع فيه هذا الطبقة الحاكمة والنظام الفاسد.
أما كيف يتحقق ذلك فلا أحد يمتلك الجواب الآن. يحتاج اللبنانيون وقتاً للخروج من صدمتهم وبعضهم لن يخرج منها. انفجار الثلاثاء يضاف إلى قائمة لا تنتهي من الصدمات التي عاشها اللبنانيون طوال العقدين الماضيين ولا تزال تداعياتها تحفر عميقاً في نفوسهم ولا تهدئها سوى مسكنات وأدوية الأعصاب.
اهتزت الأبنية في بيروت مراراً على وقع الاغتيالات. حتى الانفجار الهائل الذي تسبب به اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري لم يكن مماثلاً لحجم فاجعة الثلاثاء 4 أغسطس/آب. ما جرى يومها صداه لا يزال يتردد منذ ذلك اليوم وفي كل مرة تحل فيها ذكرى 14 فبراير/شباط 2005، لكن 4 أغسطس 2020 هو تاريخ آخر أشد فتكاً وإيلاماً. سيذكره اللبنانيون على أنه يوم سماح مسؤوليهم بتدمير مدينتهم. يوم إعلان الانهيار الشامل. يوم إفلاس هذه الطبقة السياسية التي تحكم البلد وتذكير بمدى وقاحتها وعجزها عن توجيه إصبع الاتهام باتجاه مسؤول واحد والمماطلة في مصارحة اللبنانيين بالحقائق واستغفالهم لساعات بالحديث عن انفجار مفرقعات نارية ليكذبهم الدمار.
ليست القضية مجرد زجاج تهشم أو مبان انهارت كلياً وجزئياً. إنها حياة عشرات أُزهقت وآلاف أُعطبت. إنه تعب العمر وجناه المتبدد. آخر الأحلام التي كان اللبنانيون يتمسكون بها للنجاة من بين أزماتهم اللانهائية لكنها تحطمت. كانت الأقدام تدوسها مع كل خطوة في الشوارع المدمرة والتي تغيرت ملامحها إلى مجرد أنقاض. مشهد لا يذكّر سوى بما جرى في حرب يوليو/تموز 2006. لكن المسؤول هذه المرة ليس الاحتلال الإسرائيلي الذي أحكم حصاره على بيروت في التاريخ نفسه قبل 38 عاماً، بل المحتل الداخلي الذي يرفض أن يترك شيئاً للبنانيين ويأبى إلا أن تعم رائحة الموت في كل حي من بيروت. تلك مقارنة لا يستسيغها بعض المتفذلكين لكنها الحقيقة الوحيدة اليوم.
بكى اللبنانيون مطولاً وبحرقة في ليلتهم الثقيلة. بكوا رخصهم ونكباتهم ونكساتهم. ذلهم اليومي على أبواب المستشفيات والمصارف ومحطات الوقود. بكى اللبنانيون ليالي الرعب والخوف الثقيلة والطويلة التي تأبى أن تفارفهم. تذوب أرواحهم ببطء شديد. ولماذا كل ذلك؟ لأن أحداً ما، مسؤولاً ما، أو مجموعة مسؤولين، زرعوا في قلب عاصمتهم مخزناً بأكثر من 2700 طن من المواد المتفجرة. زرعوا في مرفأهم شيئاً يؤدي انفجاره إلى مفعول شبيه بالانفجار النووي.
لطالما كان اللبنانيون يسألون على سبيل التندر عن موعد النيزك كسبيل للخلاص. اكتشفوا الثلاثاء أنه وصل لكن على هيئة أكثر من 2700 طن من مادة نترات الأمونيوم (الملح الصخري) وضعها المجرمون في مرفأ بيروت لسنوات. يقول بعضهم إن بيروت ستنهض من بين الركام. يقولون إنها ستنتفض مجدداً. هل سيسمحون لها بذلك؟ الجواب البديهي كلا. سيحولون دون ذلك. لن يوفروا وسيلة أو أداة قمع إلا وسيستخدمونها.
بيروت اليوم منهكة وتلفظ أنفاسها. ما تحتاجه بيروت ليس مجرد مساعدات بل الثأر من قتلتها. تحقيق ذلك وحده سيكون قادراً على التعويض على قاطنيها. باستثناء ذلك، لم يعد هناك ما يضمن أن مجزرة الثلاثاء لن تتكرر.