بهجة السينما التونسية

18 اغسطس 2019
طوّر كثيراً في فعاليات مهرجان قرطاج السينمائي (Getty)
+ الخط -
كان المنتج التونسي نجيب عيّاد (1953) ـ الذي توفي صباح الجمعة، في 16 أغسطس/ آب 2019، بسكتة قلبية تعرّض لها في منزله ـ علامة بارزة في المشهد العربي. فهو أحد أولئك الذين قدّموا كثيرًا للسينما التونسية، من سبعينيات القرن الـ20 لغاية اليوم. لذا، سيحفظ التاريخ السينمائي التونسي اسمه، كمنتج وناقد سينمائي، وكعضو في لجنة الأفلام السينمائية، التابعة لوزارة الثقافة التونسية. بعدها، صار مديرًا عامًا لـ"أيام قرطاج السينمائية"، الذي يمثّل منارة سبّاقة لعرض الأفلام العالمية، وأحد أبرز المهرجانات العربية، التي أصبح لها في الأعوام القليلة الماضية ميسمًا لخصوصيته العربية والأفريقية، باختيار الضيوف والأفلام، متماشيًا ـ منذ تعيينه مديرًا له عام 2017 ـ مع السياسة العامة والتوجّه الإبداعي، الذي رسمه الطاهر شريعة (1927 ـ 2010)، مؤسّس الـ"أيام" نفسها عام 1966، بصوغه مشروعًا فنيًا تشهده تونس سنويًا مع عيّاد، بعد أن كانت الـ"أيام" تُقام مرة واحدة كل عامين. 
من ميزات "أيام قرطاج السينمائية"، عدم احتكار أفلام العرض، والإبداع وتعميق الهوية العربية، بما فيها من خصوصية متنوّعة. فالـ"أيام" مهووسة بالطابع العربي ـ الأفريقي، وشأنه يكبر عامًا تلو آخر، خصوصًا مع تعيين نجيب عيّاد مديرًا لها، فصار التونسيون ينتظرونها، هم الذين يملأون صالات العرض، ويلتقون يوميًا عشّاق الفن السابع، في "شارع الحبيب بورقيبة". هذه الخصوصية الفنية العربية ـ الأفريقية، جعلت الـ"أيام" أحد أهمّ التظاهرات السينمائية في العالم العربي، فمهرجانات عربية عديدة أخرى باتت مجرّد صدى، أو نسخة هجينة، لسينما الغرب.

هذا كلّه من دون تناسي نباهة عيّاد، المؤدّية إلى انفتاح الـ"أيام"، في دوراتها الأخيرة، على سينما الجنوب وبعض دول آسيا وأميركا اللاتينية. بالإضافة إلى حرصه على التعريف بالسينما التونسية الجديدة، بأطيافها وألوانها كلّها، ويتغييرات مفاهيمها وتبدّلاتها الفنية والجمالية، التي شهدتها عبر تاريخها الطويل، منذ زيارة الأخوين لوميار لها، لتصوير بعض المشاهد عام 1896، بل منذ عرض أول صور سينمائية لسماسة شيكلي، بإعطاء قيمة أكبر لسينما التحرّر والاستقلال، ثم بإطلاق تعبيرات الجسد والذاكرة والفضاء.

يُمثّل نجيب عيّاد نموذجًا لما ينبغي أن يكون عليه المنتجون السينمائيون العرب، لامتلاكه خصوصية فريدة، تتجلّى في قدرته على اختيار الأفلام، وعلى حسّ نقدي وجمالي، وعلى هوسه بالاختلاف والتنوّع والتجريب، وعلى قدرته الفعّالة على التواصل مع عشّاق الفن السابع بلغة الكبير المتواضع، الطامح دائمًا إلى الرقي بالسينما والتلفزيون التونسيين أمام سياسات الترفيه والاستهلاك الطافية بقوة في المشهد السينمائي العربي، التي أصبحت عند البعض شعارًا لإنتاجه.

ظلّ عيّاد، عبر مساره الفني الطويل، منذ عضويته في الأندية السينمائية التونسية، مهتمًّا بإنتاج سينما نظيفة من الشوائب، وحقيقية تقوم على الإبداع والخلق، ولا تحتكر الأسماء الفنية، وتعمل على تكريسها، بل ظلّ يعطي فرصًا للشباب الحالمين بسينما عربية مغايرة، ومغامرة في الخلق والتجريب، تفتح لنفسها آفاقًا جديدة، وتبحث عن جماليات أكثر التحامًا بالواقع التونسي، وما شهده الواقع نفسه منذ الربيع العربي من تغييرات جذرية في الأصعدة كلّها، السياسية والاجتماعية والثقافية.
هذا ظاهر في أفلامه السينمائية وأعماله التلفزيونية، كـ"الريحانة" (2001)، و"يا زهرة في خيالي" (2000)، و"قمرة سيدي محروص" (2003)، و"مملكة النمل" (2012)، و"لأجل عيون كاترين" (2012)، و"يوميات امرأة" (2013)، و"ناعورة الهواء" (2014)، بالإضافة إلى المسلسل الدرامي "فلاش باك" (2016) في جزئه الأول كمنتج، والثاني (2017) كمنتج منفّذ، مشتغلاً فيه مع المخرج مراد بن الشيخ. هذا العمل احتضن تجارب سينمائية شابّة، بمنح الشباب أدوارًا رئيسية، رغم مشاركتهم الأولى، ما جعل العمل يُحقّق طفرة نوعية، على مستوى منتوجه، الذي فيه لغة تحرّر واحتجاج وثورة وجهر بحقائق، وأيضًا لغة نقد لاذع للسلطتين السياسية والدينية، بالإضافة إلى حرية التعبير في البلد، والإنتاج الغزير، الذي تتبناه وزارة الثقافة التونسية في دعم المشاريع السينمائية، فضلاً عن الشراكات التي تعقدها مع بعض المؤسسات الفنية والثقافية خارج البلد.
المساهمون