النخبة الإسرائيليّة الجديدة ودرس عربي غير مستفاد

النخبة الإسرائيليّة الجديدة ودرس عربي غير مستفاد

31 مايو 2014

جنود إسرائيليون في تمرين عسكري (أغسطس/ آب 2005 Getty)

+ الخط -
تحوّل الجنرال أوفك بوخريس، بحكم موقعه الجديد، قائد الفرقة العسكرية في هضبة الجولان، إلى أحد أهم أقطاب المؤسسة العسكرية الإسرائيلية التي يحرص كبار المعلقين والمراسلين العسكريين على الظفر بمقابلات معهم. وتتنافس وسائل الإعلام الإسرائيلية على إغداق عبارات الثناء والمديح على بوخريس و"تفانيه" في أداء واجبه، وتحمّله عناء المسؤولية عن منطقة توشك أن تصبح "أسخن" الجبهات التي تقلق صنّاع القرار في تل أبيب. لكن الملاحظة الهامشية التي يكاد لا يخلو منها أي تقرير يتناول بوخريس، تتعلق بحقيقة أن اختياره شغل هذا الموقع يعكس، في الواقع، اتساع تغلغل أتباع التيار الديني الصهيوني، في المؤسسة العسكرية، واستحواذهم على مواقع قيادية في الجيش، تفوق، بكثير، نسبتهم في تعداد المستوطنين. فعلى الرغم من أن أتباع التيار الديني الصهيوني يشكلون أقل من 15% من تعداد المستوطنين اليهود في الكيان الصهيوني، إلا أنهم، في المقابل، يمثلون 35% ـ 40% من وحدات الضباط في التشكيلات القتالية وألوية الصفوة والوحدات الخاصة، مع العلم أن أتباع التيار الديني الصهيوني لم يكونوا يمثلون، حتى أواخر ثمانينيات القرن الماضي، أكثر من 2% من الضباط (صحيفة إسرائيل اليوم، 15/11/2013).

ولا يستبعد الجنرال شلومو غازيت، الرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات العسكرية، أن يهيمن أتباع التيار الديني الصهيوني، أو "أصحاب القبعات المزركشة"، كما تتم تسميتهم، على هيئة أركان الجيش الإسرائيلي في غضون عقدين. لكن، ما يبدو أنه أكثر إثارة هو ما يجري في جهاز الاستخبارات الداخلية، "الشاباك"، والذي على الرغم من أنه أصغر الأجهزة الاستخبارية، إلا أنه أكثرها تأثيراً على دوائر صنع القرار في تل أبيب. وعلى الرغم من أن كل المعطيات التي تتعلق بطابع التركيبة البشرية في "الشاباك" تظل سرية بحكم القانون، إلا أن المعلق العسكري، أمير أورن، كشف، في تحقيق صحافي، أن أتباع التيار الديني الصهيوني باتوا يهيمنون على الهيئات القيادية في هذا الجهاز بشكل شبه كامل (هآرتس، 26/1/2014). وعلى الرغم من أن "الموساد" ظل عقوداً قلعة العلمانيين شبه الموصدة أمام المتدينين، فقد تعاظم تمثيل أتباع التيار الديني الصهيوني في الجهاز أخيراً بشكل كبير، إلى درجة أن الجهاز اضطر لتعيين حاخام، لكي يمنح عملاءه المتدينين "التسويغ الفقهي"، قبل إقدامهم على تنفيذ عملياتهم السرية خارج حدود فلسطين المحتلة (معاريف، 17/2/2014).
بكلمات بسيطة، أصحاب "القبعات المزركشة" باتوا يمثلون النخبة العسكرية في إسرائيل، ولا داعي للاسترسال في إيضاح تداعيات هذه الظاهرة على النظام السياسي في الكيان الصهيوني. فمن ناحية مهنية، تحتكر النخبة الأمنية صياغة التقديرات الاستراتيجية التي على أساسها تتخذ الحكومات الإسرائيلية القرارات المصيرية. وواضح أن التقديرات الصادرة عن هؤلاء الجنرالات تتأثر كثيراً بخلفيتهم الأيدلوجية والدينية. ويشهد وزير التعليم الأسبق وزعيم حركة ميرتس، يوسي ساريد، أن شواهد عديدة تدل على أن الجنرالات من أتباع التيار الديني الصهيوني يميلون، بشكل واضح، إلى خيار القوة لحل الأزمات مع العرب، علاوة على حرصهم على تقليص هامش المناورة أمام القيادة السياسية في التعاطي مع مشاريع التسوية السياسية للصراع مع الفلسطينيين.

ونظراً لأن الأحزاب الإسرائيلية تتنافس على استمالة جنرالات الاحتياط، بهدف "تطعيم" قوائمها الانتخابية بهم، فيمكن التوقّع أن تزداد نسبة أتباع التيار الديني الصهيوني في الكنيست والحكومة، على الرغم من أنها، الآن، أعلى من نسبة تمثيلهم في تعداد المستوطنين. وقد أقدم أتباع التيار الديني الصهيوني على خطوة لم يسبقهم إليها أي تيار ديني في العالم، حيث باتوا يخترقون الأحزاب العلمانية الكبيرة، بغية تبوّؤ مواقع قيادية فيها، لتمكينهم من التأثير على القرارات المصيرية للكيان. ويكفي أن نتابع ما يحدث في حزب الليكود، أكبر الأحزاب، الذي اخترقه هؤلاء على نطاق واسع، حتى أصبح موشيه فايغلين، زعيم معسكر "المتدينين الصهاينة" في الحزب، أحد أبرز الساسة الذين يتركون أثرهم على توجهات الحزب. ففايغلين، كنائب رئيس الكنيست، هو الذي جعل اقتحام المسجد الأقصى وتدنيسه "طقساً" يعكف عليه نواب حزبه العلمانيين. وقد استبد بهم الجنون إلى درجة أنهم يطرحون مشاريع قوانين تدعو، ليس فقط إلى تقسيم مواعيد الصلاة في الحرم بين اليهود والمسلمين، بل إلى نقل الإشراف على الحرم من دائرة الأوقاف الإسلامية إلى وزارة الأديان الإسرائيلية.

لكن الأمور لا تقف عند حد الهيمنة على النخبة العسكرية والسياسية، بل تتعداه، بشكل واضح، إلى النخبة الإعلامية. فمن يتابع، حالياً، قنوات التلفزة الرائدة في إسرائيل، لا بد سيلاحظ أن عدداً متزايداً من مقدمي البرامج الإخبارية والحوارية والمراسلين والمعلقين باتوا من أتباع التيار الديني الصهيوني. وواضح أن التحولات الدراماتيكية، على صعيد الملكية في سوق الإعلام في إسرائيل، تصب في صالح أتباع التيار الديني الصهيوني. فهناك مؤشرات عديدة تدل على أن الملياردير اليهودي الأميركي، شيلدون أدلسون، الذي دشن صحيفة "يسرائيل هيوم"، التي باتت أوسع الصحف انتشاراً، ومثّلت منبراً لنُخَب اليمين، بشقيه العلماني والديني، يتجه إلى شراء مزيد من وسائل الإعلام التي تعاني ضائقة مالية، مثل "معاريف" و"ميكور ريشون"، وغيرها. وهذا سيمنح أتباع التيار الديني الصهيوني فرصة أكبر للتأثير على صناعة الرأي العام وتوجيهه في إسرائيل، بشكل واضح. اللافت، هنا، أن معظم الدراسات التي تناولت التحولات، على صعيد النخب في إسرائيل، قد استنتجت أن انقضاض المتدينين الصهاينة على مواقع التأثير في إسرائيل ناجم، بشكل أساس، عن تشجيع المرجعيات الدينية هذا التيار وتحفيزه.

ما تقدّم يكشف في الواقع واحداً من أهم عناصر المنعة والقوة في النظام السياسي الصهيوني، مقارنة بالنُظُم السياسية البائسة في العالم العربي. فلدى الصهاينة، تمثّل "المواطَنة" مصدر الحقوق والواجبات، فلا أحد يجرؤ على محاولة شيطنة التيار الديني الصهيوني، لمجرد أداء عناصره "واجبات المواطنة". وفي عالمنا العربي، توصد الأبواب أمام كل مَن لا يسبّح بحمد السلطان، أو مَن تراه نُخَب الحكم تهديداً لبقائها، من جانب، ومن جانب آخر تتم شيطنة أي دعوة إلى احترام حقوق المواطنة، بوسمها بـ"الأخونة" و"الأسلمة".

أحد أهم مصادر اختلال التوازن بيننا وبين الصهاينة، يكمن في موقع المواطنة، مصدراً لتحديد الحقوق والواجبات. فالثورات المضادة في العالم العربي تنطلق من رفض التسليم بحقوق المواطنة وواجباتها.