المعادلة الكردية العراقية.. الخبايا وأطماع التوسّع

المعادلة الكردية العراقية.. الخبايا وأطماع التوسّع

18 اغسطس 2014
تبدي العديد من العواصم العالمية دعمها لكردستان(أحمد الربيعي/فرانس برس/Getty)
+ الخط -

لا تزال عملية ترسيم الحدود الداخلية في العراق قائمة ومفتوحة على كثير من الاحتمالات. ومن المؤثرين على الأرض في هذه العملية الأكراد ومسلحو "الدولة الإسلامية"، (داعش). فالأكراد تمكنوا، بعد حرب الخليج في العام 1991، من السيطرة على بعض أراضي العراق في شمال البلاد، وعقب الغزو الأميركي للبلاد، في مارس/ آذار 2003، زاد الأكراد مساحة مناطق إقليم كردستان لتصل إلى نحو 40 ألف كيلومتر مربع، قبل أن يفقدوا، في أغسطس/ آب 2014، السيطرة على مساحات منها لصالح "داعش".
فبعد سنوات من الاستقرار النسبي على الصعيد الأمني والنمو الاقتصادي المتصاعد، يجد الأكراد في إقليم كردستان أنفسهم هذه الأيام مهددين بالتحوّل إلى ضحايا ورعايا في دولة "داعش"، وتتحوّل أراضيهم إلى جزء من تلك الدولة بعدما خسروا عدة آلاف من الكيلومترات من مناطقهم هذا الشهر. ولكن هذا يمثّل جزءاً من صورة الوضع، وهناك جزء آخر، وهو ما يستعدّ له الأكراد على صعيد إعادة رسم الخريطة لصالحهم.

للمرة الأولى، ومنذ سنوات، ومع أول اختبار حقيقي على الأرض، أُجبِرَ مقاتلو البشمركة (تعني في اللغة الكردية مَن يواجه الموت) على التراجع من العديد من البلدات التي كانوا يسيطرون عليها في محافظات نينوى، ديالى، دهوك، وأربيل، عقب استيلاء مسلحي "داعش" عليها. وكان التراجع سريعاً وأشبه بسقوط أحجار الدومينو، حتى أنه لم يتوفر الوقت الكافي للآلاف من السكان المدنيين للفرار من هجوم مسلحي "داعش" الى مناطق آمنة.
ومع انتقال هجمات المسلحين إلى ضواحي عاصمة الإقليم الكردي، أربيل، وسقوط بلدة مخمور، التي لا تبعد سوى نحو 55 كيلومتراً عن أربيل، ومع استمرار تقدم المسلحين، قررت الولايات المتحدة الأميركية التدخل بصورة عاجلة وقصف مواقع المسلحين لمنعهم من التقدم أكثر.

أما أسباب هزيمة "البشمركة" أمام مسلحي "داعش"، وإن كان القادة الأكراد قد برّروها بفارق التسليح ونوعيته بين مقاتليهم والمسلحين، إلا أن سبباً آخر أساسياً للهزيمة لم يتطرقوا إليه وهو عدم إعداد قواتهم وفق آليات حديثة. فمن مجموع عدد قوات البشمركة الموجودة والمقدّرة بـ140 ألف عنصر، لم يتم إعداد سوى نحو 30 ألفاً تلقوا تدريبات في السنوات الماضية على أيدي مدربين أميركيين، وجرى تزويدهم بأسلحة حديثة، ونُظّموا في كتائب تدعى "زيرفاني"، أي "قوات الحماية"، وهي أقرب إلى "الشرطة العسكرية".

كما كان عامل الثقة المفرطة لدى القيادة الكردية بمقاتليها، واعتماداً على "انتصارات" سابقة لقدامى مقاتليها ضد الجيش العراقي في عقود الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، أمراً سلبياً.
ولم تكلّف القيادة نفسها حتى عناء متابعة الخطط العسكرية التي يتّبعها تنظيم "داعش" في احتلال الموقع تلو الآخر في شمال ووسط العراق، علماً أنه كانت أمام الأكراد فرصة جيدة لفعل ذلك، لأن مدينة الموصل سقطت بيد مسلحي "داعش" في 9 يونيو/ حزيران، فيما بدأت هجمات المسلحين القويّة ضد مواقع البشمركة ابتداءً من يوم 22 يوليو/ تموز، أي بفارق زمني قدره 42 يوماً.

اعتقد الأكراد أن حرب "داعش" إنما هي موجّهة لضرب القوات الحكومية العراقية، وهو ما يفسّر حجم التراجع العسكري والفظائع التي خلّفها المسلحون ضد المدنيين.
وخرج المسؤولون والضباط الاكراد، عقب الهزائم، ليصرّحوا للإعلام بأن رشاشاتهم الروسية الصنع لم تنجح في إيقاف مسلحي "داعش" الذين يهاجمون وهم يستقلون عجلات ومدرعات أميركية.

"كردستان أو الموت"

رئيس إقليم كردستان، مسعود البرزاني، وهو وفضلاً عن كونه أبرز القادة الأكراد، يُعدّ أحد أبرز اللاعبين السياسيين على صعيد العراق، لخّص الخطة الكردية للرّد على الهزيمة التي لحقت بهم على أيدي "داعش"، في بيان أصدره في 15 أغسطس/ آب الجاري، بالقول إن "كردستان تواجه حملات من أبشع الإرهابيين الدمويين. يجب أن نستعدّ لتطبيق شعار كردستان أو الموت دونها".

وذهب البرزاني إلى أبعد من ذلك عندما قال: "إننا واثقون من أن هذه الأوضاع ستنتهي لصالح شعب كردستان. سننتصر، ويجب علينا أن نفكر جميعاً في الانتصار وأن نعمل لهذا الانتصار".
ويعمل الأكراد بالفعل على التجهيز لحربهم الكبرى بعدما نجحوا في لفت انتباه العالم إلى التهديدات التي يتعرّض لها إقليم كردستان والفظائع التي ارتكبها مسلحو "داعش" ضدهم وضد الأقليات القومية والدينية في المنطقة.
وقد تفاعلت قضية تهديدات مسلحي "داعش" للإقليم الكردي دولياً، حتى وصل الاهتمام الدولي درجة إصدار مجلس الأمن قراراً بالاجماع يستهدف "داعش" و"جبهة النصرة" التي تنشط في سورية.
في موازاة ذلك، تبدي العديد من العواصم العالمية دعمها لإقليم كردستان واستعدادها لتزويد المقاتلين الأكراد بالأسلحة والمعدات. ومع وجود غطاء جوي أميركي لتحرك قوات البشمركة الكردية على الأرض في قتال مسلحي "داعش"، تتعزّز فرص الأكراد كثيراً لاستعادة ما فقدوه من أراضٍ ودحر المسلحين.
ويقول مراقبون إن الفرصة قائمة لطرد مسلحي "داعش" حتى من مدينة الموصل، الواقعة على بُعد 400 كيلومتر شمالي بغداد. فالتقدم الذي كان يحرزه هؤلاء حتى يوم 7 أغسطس الحالي، وقبيل بدء الطيران الأميركي بشن غارات ضدهم، كان كاسحاً، إلا أنهم، وتحت وطأة القصف الجوي، تحوّلوا في استراتيجية القتال من الهجوم إلى الدفاع.

ويوضح مسؤول إعلام الحزب "الديمقراطي الكردستاني" في محافظة نينوى، سعيد مموزيني، "إنهم (داعش) كانوا يهاجمون، والبشمركة الكردية تدافع. وانقلبت المعادلة الآن وصاروا هم المدافعون والبشمركة هي التي تهاجم".
وتوقع مموزيني، في حديث لـ"العربي الجديد"، هزيمة المسلحين في جميع مواقع تمركزهم في نينوى، وحتى في مدينة الموصل. ويضيف: "متابعتنا للوضع في مدينة الموصل كشفت لنا هروب العديد من قادة داعش البارزين من المدينة، ولا سيما الأجانب منهم، غادروا مع أُسرهم وحتى أميرهم أبو بكر البغدادي نفسه غادر قبل أسبوع في موكب ضم نحو 40 مركبة، بعضها مصفحة".

ويلفت مموزيني إلى "أنهم يعدّون لمعركة خاسرة. يقومون منذ أسابيع بتجنيد المراهقين من سكان مدينة الموصل وضواحيها، ممّن تبدأ أعمارهم بـ14 سنة، ويقومون بضمّهم لقواتهم بعد تدريبات لأيام عدة استعداداً للدفع بهم الى خطوط القتال الأمامية".

لكن المحلل السياسي الكردي، عبد الغني علي يحيى، يعتقد أن حرب الطرفين لن تأتي بنتائج حاسمة في وقت وجيز، بل ستكون مفتوحة على احتمالات عدة "وستمتد لفترة غير قصيرة". 

الحدود الكردية المتحركة
يرى الأكراد أن الحدود التاريخية لمناطقهم يجب أن تبدأ من بلدات مثل مندلي والسعدية، والتي لا تبعد سوى 57 كيلومتراً شمال شرق بغداد وتصعد شمالاً في قضاء خانقين ونواحي السعدية وجلولاء في محافظة ديالى، ثم محافظة كركوك باستثناء بعض الأقضية والنواحي ذات الأغلبية السكانية العربية فيها، وفي محافظة نينوى هناك منطقة سهل نينوى الذي تسكنه مكونات قومية ودينية مختلفة. يُضاف لتلك الأراضي، المحافظات الكردية الثلاث: أربيل، والسليمانية، ودهوك.

وكان الدستور العراقي، الذي شارك الأكراد بقوة في وضعه في 2005، قد جرى تضمينه مادة تحمل الرقم 140، تنصّ على اتّباع خطة من ثلاث مراحل لحّل النزاع بين الأكراد والحكومة العراقية حول حق إدارة مناطق متنازع عليها تسكنها أغلبية سكانية كردية لكنها تخضع لإدارة بغداد وليس للإدارة الكردية في إقليم كردستان. لكن المهلة الدستورية لتطبيق المادة، وهي عامين، انقضت من دون تطبيق. اتهم الأكراد الحكومة العراقية بالتنصل من التطبيق لأهداف سياسية، فيما قالت بغداد إن أسباباً فنية حالت دون تطبيقه.
بعدها، جاء تمدّد مسلحي "داعش" على مدن في شمال العراق، ليعلن الأكراد أن تطبيق تلك المادة الدستورية جرى من دون عناء، فقد انسحب الجيش وحلّت البشمركة الكردية محله في مناطق النزاع. لكن تلك السيطرة مهددة من قبل المسلحين، وحتى بعد زوال تهديد الجماعات المسلحة، سيكون على الأكراد التحاور مع بغداد حول قضية تلك الأراضي.

أبعاد إقليمية ودولية للصراع

يتداخل البعدان الداخلي والخارجي في الصراع الدائر في شمال العراق، وهو ما يُضفي مزيداً من الضبابية على الوضع ويعقّد عملية توقّع النهايات. فقبل أن يأخذ الصراع بُعداً دولياً بتدخل الولايات المتحدة الأميركية وقصف مواقع المسلحين، ظهر البُعد الإقليمي من خلال دخول حزب "العمال الكردستاني التركي" المعارض لتركيا وجناحه السوري "حزب الاتحاد الديمقراطي"، وهما واقعان تحت تأثير إيران وسورية معاً، على خط الأحداث. فقد ظهر مقاتلو الجماعتين في جبهات القتال ضد "داعش" في أربيل ونينوى. كما يعمل الحزبان على إنشاء جيب دائم لهما داخل شمال العراق في موقع استراتيجي على الحدود بين العراق وسورية.

ويرى عثمان أوجلان، وهو شقيق عبد الله أوجلان مؤسس "حزب العمال الكردستاني"، وأحد القادة السابقين للحزب، أن حزب "العمال" يريد أن ينشئ "كانتون سنجار"، في إشارة إلى بلدة سنجار على الحدود العراقية ـ السورية حيث يوجد العشرات من مقاتلي الحزب هناك منذ أيام.

وسيوفر "كانتون سنجار" المفترض، موطئ قدم بإمكان إيران أن تؤثر، انطلاقاً منه، على إقليم كردستان العراق وعلى الموصل والجانب الآخر من الحدود في الداخل السوري.
وبإمكان إيران استغلال الأمر ونقل مقاتلي وأسلحة الحزب إلى المعقل الجديد، إذا ما جرت تسوية للقضية الكردية في تركيا، فيبقى المقاتلون بأسلحتهم هناك كورقة بإمكان الإيرانيين الضغط بها على تركيا متى أرادوا.‪ 
‬كما أن هناك رواية كردية أخرى تعزّز احتمال ضلوع قوى إقليمية ودولية في الصراع، تقول إن هجمات "داعش" على العراق كانت بالأساس خطة إقليمية لضرب كردستان ومشروع الاستقلال الذي تبناه البرزاني.
وعندما سقطت مدينة الموصل بيد المسلحين، قال بعض الأكراد إن الخطة هي "مؤامرة إقليمية" تشترك فيها حكومات المنطقة. والهدف ليس الموصل ولا نصرة السنّة ضد الشيعة، بل لتوجيه إنذار شديد للبرزاني، وإبلاغه أن دول الإقليم مستعدة لضرب استقرار كردستان إذا أصرّ على استفتاء تقرير المصير والاستقلال.

المساهمون