المحكمة الجنائية تواجه الانسحاب الأفريقي الجماعي... بضغوط دولية

المحكمة الجنائية تواجه الانسحاب الأفريقي الجماعي... بضغوط دولية

05 نوفمبر 2016
من تظاهرات سودانية ضد مذكرة توقيف البشير(أشرف الشاذلي/فرانس برس)
+ الخط -
تواجه المحكمة الجنائية الدولية تحدياً جديداً، في ظل التوافق الأفريقي على الانسحاب الجماعي منها، بدوافع مختلفة وإن التقى الجميع على اتهام المحكمة باعتبارها أداة سُلّطت في مواجهة أفريقيا بالنظر إلى طبيعة القضايا المفتوحة هناك، والتي غابت عنها أية جرائم باستثناء التي ارتُكبت في دول أفريقية. وكشف السودان أخيراً عن خطة مكتوبة للانسحاب الأفريقي الجماعي من المحكمة، أقرتها قمة الاتحاد الأفريقي في يناير/كانون الثاني الماضي، وذلك على خلفية إعلان جنوب أفريقيا ورواندا وغامبيا الأسبوع الماضي الانسحاب من المحكمة الجنائية بمبررات مختلفة. وبدا وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندور واثقاً من تتالي الانسحابات وسط الدول الأفريقية، خصوصاً أنه يُعدّ مهندساً للخطوة بالنظر لسلسلة الزيارات التي قادته إلى 12 دولة أفريقية بشأن الملف، وفق مصادر حكومية. ويُنتظر أن تلحق كينيا بالدول الثلاث المنسحبة أخيراً، خصوصاً أن برلمانها بدأ في دراسة الخطوة تمهيداً للمصادقة عليها لتصبح بمثابة ضوء أخضر للحكومة في نيروبي للتحرك. وسارعت الصين لتأييد الدول المنسحبة، وحثّت الخارجية الصينية في بيان لها الجنائية على احترام سيادة واستقلالية الأفارقة.

لكن مصادر في الأمم المتحدة كشفت عن أن ضغوطاً أوروبية وغربية بدأت على الدول المنسحبة وعلى دولة جنوب أفريقيا تحديداً للتراجع عن الخطوة. وأكدت المصادر أن مبادرة ستتم خلال الأيام المقبلة لفتح حوار مع الأفارقة بشأن ما يشغلهم من المحكمة الجنائية، للحد من المزيد من الانسحابات فضلاً عن ثني الدول الثلاث المنسحبة. تأسست المحكمة الجنائية الدولية في يوليو/تموز 2002 بهدف تحقيق العدالة الإنسانية وحماية حقوق الإنسان في دول العالم، ووجدت تأييداً من القادة الأفارقة منذ بداياتها خصوصاً أنها جاءت على خلفية الجرائم التي ارتُكبت في رواندا 1994، إذ صادقت عليها نحو 34 دولة أفريقية من أصل 124 دولة مصادقة على الاتفاقية. وتُعنى المحكمة بالنظر في الجرائم المتصلة بالإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، وخلال عمرها لم تصدر سوى خمسة أحكام على أساس معايير موضوعية، كما فتحت نحو 23 قضية جميعها تتصل بالدول الأفريقية، بينها كينيا وأفريقيا الوسطى والسودان والكونغو ورواندا.

ويُعتبر الرئيس الكيني أهورو كينياتا أول رئيس دولة يمثل أمام الجنائية الدولية أثناء فترة حكمه، إذ مثل أمامها قبل نحو عامين، بتهم إثارة العنف العرقي أثناء فترة الانتخابات عام 2007، لكن التهم أُسقطت عنه في ديسمبر/كانون الأول 2014 لعدم كفاية الأدلة. كما يُعتبر الرئيس السوداني عمر البشير ممن تحدّوا المحكمة الجنائية، وسعى منذ إعلان اتهامه بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في عام 2009 لحشد الأصوات الأفريقية الرافضة للمحكمة، وعمد إلى الاستخفاف والاستهزاء بها وبالمدعي العام فيها وقتها، لويس أوكامبو. كما نجح في جمع تأييد أفريقي رافض لمذكرة التوقيف الصادرة ضده، واستقبلته دول أفريقية مصادقة على اتفاقية المحكمة وتجاهلت مطالبات الأخيرة بإلقاء القبض عليه.
وكشفت مصادر متطابقة لـ"العربي الجديد " عن أن تنسيقاً عالي المستوى تم بين الخرطوم ونيروبي لحمل الدول الأفريقية على الانسحاب من الجنائية، وكان كينياتا قد عمد إلى تقديم الورقة الخاصة بالانسحاب الأفريقي من الجنائية خلال القمة الأفريقية في كيغالي. وذكرت المصادر أن السودان وكينيا قادتا تحركاً قوياً لإقناع غامبيا بالانسحاب من المحكمة، عبر تقديم إغراءات مالية للحكومة هناك، باعتبار أن انسحابها يمثّل ضربة قوية للمحكمة، لا سيما أن المدعية العامة للمحكمة الجنائية، فاتو بنسودا، هي غامبية الأصل.

ورأى مراقبون أن التوتر العالمي القائم وانشغال الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية بقضايا الهجرة والصراعات الدولية وانكفاءها على قضايا أخرى، كلها ظروف شكّلت فرصة لخطوة القادة الأفارقة للانسحاب من المحكمة، لا سيما أنه في القارة السمراء بدت السمة البارزة بين حكامها البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة، عبر تغيير الدساتير وتكييفها مع التمديد، فضلاً عن الفوز بانتخابات مُشكك في نزاهتها.



وقال المحلل السياسي، الحاج النور، إن الأفارقة ينظرون للمحكمة الجنائية على أنها تقاسمهم السيادة لأنها ستكون حاضرة في حال فشل الحكومات هناك في حماية مواطنيها، وإذا لم تحترم حقوق الإنسان، كما أن وجودها سيجعلهم مجبرين على الالتزام بالمبادئ الدولية المتصلة بحقوق الإنسان. ويشير إلى أن الكثير من القيادات الأفريقية وجدت أن الأمر سينتهي بها إلى المحكمة الجنائية، لذا ظهر الخلاف معها، معتبراً أن "الجنائية بدأت بالسودان وهناك دول أفريقية كثيرة تعاني من المشكلات نفسها كالسودان، وجميعها تفضّل الاستمرار في الحكم مع تكميم الأفواه الرافضة". ورأى أن تحدي السودان للمحكمة الجنائية من العوامل التي ساعدت على قرار الانسحاب الأفريقي، فضلاً عن عدم فعالية المحكمة نفسها، مشيراً إلى أن انسحاب جنوب أفريقيا وإن جاء متسقاً مع الرغبة الأفريقية التي ظهرت أخيراً، إلا أنه ناتج في الأساس من المشكلات الداخلية في جوهانسبرغ، فضلاً عن الهزة القوية التي أحدثها استقبال البلاد للبشير لحضور القمة الأفريقية قبل نحو عامين، الأمر الذي عرّضها إلى مواجهات مع القضاء المحلي. ويعتبر أن انسحاب جوهانسبرغ يمثّل ضربة قوية للجنائية بالنظر لثقلها، مؤكداً عدم وجود توافق وإجماع حول قضايا حقوق الإنسان، لافتاً إلى أن غياب السند الأميركي للمحكمة ساهم في ذلك التصدع، مشيراً إلى أن الانسحاب الأفريقي من الجنائية يمثّل تحدياً كبيراً لها ولاستمراريتها.

عملياً ووفق ميثاق روما الذي بموجبه تأسست المحكمة الجنائية الدولية، فعلى الرغم من منح الدول المصادقة حق الانسحاب، إلا أن العملية قُيّدت بفترة زمنية تصل إلى عام، إذ يمكن للدولة المعنية إبلاغ الأمين العام للأمم المتحدة كتابة بشأن الانسحاب ليصبح بعدها الأمر نافذاً بعد عام من تاريخ تسليم البلاغ. كما لا يعفي الانسحاب الدولة من الالتزامات تجاه المحكمة أثناء كونها عضواً فيها، بما فيها الالتزامات المالية، فضلاً عن أن الانسحاب لا يؤثر على أي تعاون مع الجنائية في ما يتصل بالتحقيقات والإجراءات الجنائية، التي كانت قد بدأت قبل التاريخ الذي أصبح فيه الانسحاب نافذاً.

وأبدى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون أسفه لخطوة البلدان الثلاثة الانسحاب من الجنائية، معتبراً أنها ترسل رسالة خاطئة حول التزامها بالعدالة، مؤكداً أن المطلوب تعزيز الجنائية بدلاً من تقليص الدعم لها. أما السودان، فاعتبر أن قرار الانسحاب تم نتيجة لتجاهل مجلس الأمن الدولي مناقشة اهتمامات الأفارقة بشأن المحكمة. وقال وكيل وزارة الخارجية السودانية، عبدالغني النعيم، في تصريح سابق إن القمة الأفريقية أقرت بحث الاهتمامات الأفريقية حيال سلوك المحكمة الجنائية، التي لم تراعِ قضيتي الرئيسين السوداني والكيني، وبالتالي فإن الدول الأفريقية ستنظر في الانسحاب منها، مضيفاً "في ظل عدم تجاوب مجلس الأمن ومناقشة الملف مع المجموعة الأفريقية، فمن حق أية دولة أن تنسحب". وفي مؤتمر حقوق الإنسان الأفريقي في غامبيا أخيراً، تبنى الاتحاد الأفريقي مشروع العدالة الانتقالية بديلاً للمحكمة الجنائية، وبدأ فعلياً في وضع الإطار القانوني للخطوة.

ورأى محللون أن عملية انسحاب جنوب أفريقيا على وجه الخصوص من الجنائية ستواجه عقبات كثيرة، وأن هذه الدولة ستواجه ضغوطات داخلية وخارجية للعدول عن الخطوة بالنظر إليها كدولة ديمقراطية وتتمتع بحرية الرأي، فضلاً عن وجود قضاء مستقل. وعملياً حرك التحالف الديمقراطي المعارض في جنوب أفريقيا دعوى قضائية أمام المحكمة الدستورية للطعن في قرار الحكومة الانسحاب من المحكمة الجنائية، وأبدى الحزب تفاؤلاً في أن تتمكن المحكمة في تغيير قرار الحكومة باعتبارها صاحبة الفصل في القضايا الدستورية.

واعتبر الخبير في ملف الجنائية، علاء الدين بشير، أن الانسحابات الحاصلة تمت لأسباب داخلية أكثر من كونها موقفاً جماعياً، كما أن أمر إنفاذ عملية الانسحاب عملياً والتي تمتد لعام تُمثّل مهلة كافية للسعي نحو إقناع الدول المنسحبة بالعدول عن ذلك. ورأى أن الخطورة في انسحاب جنوب أفريقيا باعتبارها دولة كبيرة في أفريقيا، ولكنه أكد صعوبة إنفاذ الخطوة عملياً بالنظر لارتباط جوهانسبرغ القوي بالعالم ووجود رأي عام داخلي قوي ونسبة من الديمقراطية، ما يمكن أن يخلق حملة معارضة للقرار تجبر الحكومة على العدول عن الخطوة. ولفت بشير إلى أن عملية الانسحاب لن تحد من قوة المحكمة الجنائية بالنظر للتطور التاريخي لقيم العدالة الإنسانية وقضايا حقوق الإنسان، فضلاً عن تطور الوعي، معتبراً أن الخطوة برمتها جاءت نتيجة لتعقيدات وانتقادات تُوجّه للمحكمة، فضلاً عن وجود دول كبرى تدعم نفوذها.