الفيزيائية والملياردير: العلاقات الأميركية - الألمانية على مفترق طرق

الفيزيائية والملياردير: العلاقات الأميركية - الألمانية على مفترق طرق

10 يونيو 2020
تغيب الكيمياء بين ميركل وترامب (ستيف بارسون/Getty)
+ الخط -
إذا نفّذ عملياً قراره بتقليص عديد القوات الأميركية في ألمانيا، يكون الرئيس دونالد ترامب قد وضع مسماراً جديداً في نعش العلاقات الأميركية - الأوروبية التي أصبحت الضحية المقصودة أو غير المقصودة ليس فقط لشعاره "أميركا أولاً"، بل لحروبه الاقتصادية المفتوحة التي يخوضها حول العالم. هذه الفجوة في التباعد الاستراتيجي بين واشنطن وبرلين، تتوسع تدريجياً، وتحجم دور حلف شمال الأطلسي في ردع روسيا، وتزيد عزلة واشنطن على المسرح الدولي، وتتركها من دون حلفائها التقليديين، وأكثر انحيازاً للأنظمة الأوتوقراطية.

صحيفة "وول ستريت جورنال" كانت أول من سرّب نية ترامب إعلان تقليص عديد القوات الأميركية في ألمانيا من 34 ألفاً و500 جندي، إلى 25 ألفا، وذلك من دون التشاور مع برلين، أو حتى مع القيادات العسكرية الأميركية في أوروبا. حديث ترامب عن هذا الأمر ليس جديداً، ويأتي ضمن سياق الضغط على حلفاء واشنطن لتحمل الأعباء المالية للدفاع الأميركي عنهم، لا سيما ألمانيا، القوة الاقتصادية الأوروبية الأبرز. لكن في صلب هذا التوتر في العلاقات الأميركية –الألمانية، غياب الكيمياء بين المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي تأتي من خلفية كونها فيزيائية ملتزمة بالعولمة والليبرالية والحوكمة، مقارنةً مع الملياردير ترامب، الذي يعتمد سياسة خارجية قومية وانعزالية، تتجاهل مؤسسات الحكم وتنظر إلى الأمور من باب الربح والخسارة.

هناك اعتقاد بأن تسريب قرار سحب جزء من القوات الأميركية من ألمانيا، كان رداً مباشراً على عدم تأكيد ميركل حضورها قمة مجموعة السبع التي كان مزمعاً إجراؤها خلال هذا الشهر في الولايات المتحدة، وتمّ تأجيلها. ترامب يريد تحويل القمة إلى استعراضٍ انتخابي له عشية الانتخابات الرئاسية، مع طرح فكرة تبدو غير قابلة للتنفيذ، لتوسيع مجموعة السبع لتشمل كوريا الجنوبية وأستراليا وروسيا والهند. والأهم من ذلك أراد الرئيس الأميركي من وراء صورة انعقاد القمة، أن يقول للأميركيين إن الحجر الصحي انتهى، ويجب إعادة فتح الاقتصاد، على الرغم من الاعتراضات الداخلية على التداعيات الصحية لهذا الأمر.

لكن التسريبات حول الاتصال الهاتفي بين ترامب وميركل، الذي دام حوالي عشرين دقيقة، كانت كارثية. بحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، فإن ترامب لم يتمكن من إقناع ميركل بحسم مشاركتها في القمة، وبعدما أشارت المستشارة إلى استمرار انتشار فيروس "كورونا" كسببٍ رئيسي يمنع سفرها، ردّ عليها الرئيس الأميركي بمونولوغ طويل، اشتكى فيه من مجموعة السبع والحلف الأطلسي ومنظمة الصحة العالمية، قبل أن ينتهي الاتصال المتوتر بينهما. بعدها بأسبوع، علمت ميركل من الإعلام الأميركي أن ترامب ينوي تقليص حجم القوات الأميركية في بلدها في غضون ثلاثة أشهر، من دون أي إبلاغ رسمي أو إشعار للسلطات الألمانية. حتى الآن، لم تحصل السلطات الألمانية على توضيح حول صحة التسريبات، على الرغم من محاولات برلين المتكررة للاستفسار، ما يعكس مداولات داخل إدارة ترامب، لا سيما مع وزارة الدفاع (البنتاغون). وبالتالي قد ينتهي هذا الأمر مثل الكثير من قرارات ترامب الانفعالية التي تتسرب إلى الإعلام أو يعلنها الرئيس بشكل مباشر على موقع "تويتر"، ليتضح بعدها وجود اعتراض واسع عليها داخل الإدارة، أو لا يمكن تنفيذها عملياً.

لكن حتى إشعار آخر، يبدو كأن التحالف الاستراتيجي عبر الأطلسي يدخل في مرحلة جديدة قد تؤدي إلى تغيير جذري في الحسابات الألمانية، من ناحية إنهاء الاعتماد الأمني على الولايات المتحدة. تقليص القوات الأميركية في ألمانيا يضعف قدرات الردع الأميركية، ويقوض مقاربة واشنطن حيال أوروبا القائمة منذ الحرب العالمية الثانية. هذه القواعد العسكرية في ألمانيا هي استراتيجية بالنسبة للجيش الأميركي، بحيث تمر كلّ الرحلات الجوية العسكرية إلى العراق وأفغانستان عبر قاعدة رامشتين، ويعالج مستشفى لاندستول العسكري الجنود الأميركيين المصابين في ساحات النزاع في العراق وأفغانستان، وتقوم هذه القواعد العسكرية في ألمانيا بتنسيق المهمات العسكرية الأميركية في أفريقيا، كما لدى أميركا أسلحة نووية يعتقد أنها في قاعدة بوتشل غرب ألمانيا.

مع أن ميركل حرصت منذ العام الماضي على تفادي مواجهة الرئيس الأميركي علناً على الأقل، فإن التمايز بين البلدين يطاول ملفات كثيرة تتراكم منذ وصول ترامب إلى الحكم. لكن السبب الرئيسي لهذا التباعد عبر الأطلسي هو الحرب الاقتصادية التي تزداد وتيرتها كأولوية في البيت الأبيض لمواجهة الصين وروسيا وإيران. الدافع الرئيسي الأول لترامب في تقليص عديد القوات الأميركية في ألمانيا هو حربه الاقتصادية مع الصين، التي تتزامن مع ركود اقتصادي أميركي على أبواب انتخابات رئاسية حاسمة. برلين كانت تنظر في احتمال استخدامها معدات عملاق التكنولوجيا الصيني "هواوي" لبناء شبكات الجيل الخامس الألمانية. في النهاية، وبعد ترددٍ ألماني وضغوط أميركية، ذهبت شركة "تيليفونيكا" الألمانية مع الشركة السويدية "أريكسون"، كما استبعدت "هواوي" من النواة الرئيسية لهذه الشبكة، مع الاستمرار بالتعاون معها في شبكات الاتصال اللاسلكية الأقل حساسية في الجيل الخامس. إدارة ترامب تقوم بضغط دولي واسع النطاق على "هواوي"، وتتهمها بالتجسس لصالح الصين، ونجحت في إجهاض محاولاتها للاستثمار في بريطانيا والنرويج والدنمارك والأرجنتين وكندا، بحيث كان هناك خشية في هذه البلدان من أي عقوبات أميركية.

مشكلة ترامب الثانية مع ميركل تتمثل في مشروع خط أنابيب "نورد ستريم 2" لتصدير الغاز الروسي إلى ألمانيا وأوروبا عبر بحر البلطيق. هذا المشروع يواجه تحديات رئيسية، لا سيما العقوبات الأميركية التي تطاوله، والقيود الإجرائية للاتحاد الأوروبي من أجل النفاذ إلى الأسواق الأوروبية. على عكس قضية "هواوي"، ميركل أقل ليونة في ما يتعلق بـ"نورد ستريم 2"، في ظلّ التنافس الاستراتيجي الأميركي - الروسي. لكن ما هو لافت التناقض في سياسة ترامب بين تشجيع العقوبات حول خط أنابيب أوروبي مع روسيا، مقابل سعي البيت الأبيض لإعادة موسكو إلى مجموعة السبع.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تخلى عن سعيه لتحسين العلاقة مع ترامب ويكتفي أخيراً بمحاولة تفادي إغضابه في معارك غير ضرورية، لكن ميركل يبدو كأنها تشعر أن رئاسة ترامب تترنح ولا تريد أن تكون جزءاً من محاولات تلميع صورته، لا سيما أنها في نهاية مسيرتها السياسية في ظلّ تنحيها المتوقع العام المقبل. في انتقاد ضمني لترامب، قالت المستشارة الألمانية الشهر الماضي إن "الدولة القومية وحدها ليس لها مستقبل"، كما يثير تعامل الرئيس الأميركي مع الاحتجاجات في بلاده نتيجة جريمة قتل جورج فلويد في مدينة مينيابوليس، القلق في ألمانيا وفي دول أوروبية أخرى طرحت تساؤلات حول احترام ترامب للقيم الديمقراطية. وزير الخارجية الألماني هايكو ماس وصف هذه التظاهرات بأنها "أكثر من مشروعة"، فيما وصفت ميركل أسلوب ترامب في التعامل مع المتظاهرين بأنه "مثير للجدل"، واعتبرت أن هناك "استقطابا" في المجتمع الأميركي. هذا التصريح لميركل كان مثيراً للاهتمام في ظلّ صمت القادة الغربيين حول ما يجري داخل الولايات المتحدة. لكن الأوروبيين بشكلٍ عام في حيرة، ينتظرون بفارغ الصبر نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية في الخريف ليبنى على الشيء مقتضاه، أي تجديد ولاية ترامب وتكريس مسار طلاقٍ جزئي مع أميركا، أو نجاح منافسه الديمقراطي، نائب الرئيس السابق جو بايدن، لتبدأ محاولة إعادة تشكيل وترميم العلاقات عبر الأطلسي.