الفلوجة: "دولة" حدودها متاريس سياسية وعسكرية

الفلوجة: "دولة" حدودها متاريس سياسية وعسكرية

22 فبراير 2014
لا تكاد تستقر الفلوجة حتى يعاودها التوتر
+ الخط -

ينشغل أبو أسامة المحمدي (45 سنة)، بملء أكياس الرمل وتوزيعها على سطح منزله وسط مدينة الفلوجة لتقليل خطر القذائف التي يطلقها الجيش إذا ما سقطت عليه، بينما خرجت زوجته مع عدد من النسوة إلى نهر الفرات الذي يخترق المدينة لجلب المياه، بعد انقطاعها عن المنازل. عسر حال أبو أسامة وآلاف الأسر الأخرى اضطرهم إلى البقاء في الفلوجة تحت رحمة القذائف والاشتباكات شبه اليومية بين قوات الجيش العراقي ومسلحي مجلس ثوار الفلوجة، الذين يفرضون سيطرتهم على المدينة.

يقول أبو أسامة لـ"العربي الجديد": "نحن في وضع سيئ للغاية، ولا أدري إلى متى سيمكننا الصمود، لكن الذي أعرفه هو أن نموت في منازلنا بكرامة خير لنا من النزوح والسكن في مدارس أو ورش حدادة كما فعل جيراني". ويرى "أن الجيش يجب ألا يدخل الفلوجة لأنها باتت مسألة كرامة". يصمت لبرهة ثم يتابع بكل ثقة "وأنا مع المسلحين".

بعد خمسين يوماً من القتال، تبدو "معركة الفلوجة الثالثة"، كما يسميها مراقبون، مرجحة للتمديد، والأسباب عديدة؛ منها قوة الدفاع التي أبداها المسلحون في الفلوجة، وانعدام ثقتهم بأي مقترح حل تقدمه بغداد أو أي من الساسة السنّة المتعاونين معها، وزيادة الخسائر في الممتلكات والمدنيين، إضافة إلى "قناعة الفصائل المسلحة في الأنبار بتغلغل عناصر ميليشياوية موالية لإيران تحت غطاء الجيش للقتال ضدهم".

حال الفلوجة اليوم يختلف كلياً عما كانت عليه حتى 28 كانون الأول/ديسمبر 2013. المدينة، التي تتمتع بموقع اقتصادي استراتجي بسبب وقوعها على الطريق الدولي الذي يربط بغداد بسوريا عبر الأنبار، رُفعت فيها أعلام لا تشبه العلم الرسمي للبلاد، وتبدو آثار الدمار والقصف واضحة عليها. وهجرها 80 في المئة من قاطنيها، كما يروي المتحدث باسم مجلس شيوخ الفلوجة، الشيخ حميد أبو بكر، الذي يقوم حالياً بإدارة الحياة في المدينة.

ويقول أبو بكر في حديث لـ"العربي الجديد" "نقوم حالياً بتنظيم الحياة في المدينة وفرض نوع من النظام". ويضيف "لم نكن نرغب في أن تصل الأمور إلى هذا الحد، الجيش والحكومة دفعانا إلى ثورة مسلحة جديدة بسبب سياسية التهميش والإقصاء ضد أهالي الأنبار".

ووفقاً لأبو بكر، يسيطر اليوم على الفلوجة "٦ فصائل مسلحة، خمسة منها من أبناء الفلوجة، غالبيتها عملت ضد الوجود الأميركي". أما الفصيل السادس فليس وفقاً لأبو بكر، سوى "تنظيم القاعدة، أو ما يعرف اليوم بالدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش"". ويستدرك أبو بكر بالقول: "لكن داعش هي الأقل عدداً، ومع هذا فإن المالكي يصرّ على أنها تسيطر على زمام الأمور في الفلوجة، وذلك لمنع إضفاء طابع الثورة الشعبية ومواصلة الخيار العسكري في حل الأزمة".

ويرى أبو بكر أن "حل الأزمة كان يمكن أن يكون وسهلاً لولا القصف المستمر على الفلوجة من قبل الجيش". ويوضح "يومياً يسقط علينا بمعدل 30 قذيفة هاون ومدفع متوسط، أغلبها يستهدف الأحياء السكنية، وراح ضحيتها حتى اليوم 103 قتلى من المدنيين، بينهم نساء وأطفال، إضافة إلى أكثر من 569 مصاباً". ويضيف "المالكي لا يعرف أنه مع كل قذيفة تسقط على الفلوجة تزيد نقمة السكان عليه".

على الرغم من ذلك، لا يستبعد أبو بكر التوصل إلى حل سياسي يجنّب المدينة مصيراً مجهولاً. ويلفت إلى أن قادة الفصائل المسلحة ومجلس شيوخ الفلوجة ومجلس علمائها قدموا مبادرة لحل الأزمة تقوم على "سحب الجيش من محيط الفلوجة كلياً وإيقاف القصف العشوائي، وتكفّل الحكومة بالاعتذار عن مقتل المدنيين وتعويض ذويهم بشكل مجزٍ". كما تتضمن المبادرة "التعهد أمام المجتمع الدولي بإعادة التوازن لقوات الأمن، وإيقاف الاعتقال العشوائي ومحاربة الميليشيات الطائفية الشيعية كمحاربتها للجماعات المسلحة السنية دون تمييز".

لكن المستشار الإعلامي للحكومة العراقية، علي الموسوي، يرد على هذه المبادرة بالتشديد على أن "الحكومة لا يمكن أن تتفاوض مع القاعدة أو الإرهابيين". ويقول في حديث لـ"العربي الجديد": "لدينا اتصالات مع شيوخ القبائل ورجال الدين وقدمنا مبادرات عدة، آخرها كان مطلع هذا الأسبوع، تتمثل بتعويض مالي وتوفير 10 آلاف وظيفة وإحالة معتقلي الأنبار إلى محاكم داخل المحافظة والاستعجال بإطلاق سراح المنتهية مدة أحكامهم، وإلغاء فقرة المخبر السري". ويحذر قائلاً "عدا ذلك، فإن الحكومة لن تترك الفلوجة خارج سيطرتها مدة أطول".

ويرى أحد قادة الفصائل المسلحة في الفلوجة، الشيخ مصطفى المشهداني، أن تصريح الموسوي "قرع لطبول الحرب". ويقول المشهداني إن "الجيش مخترق من ميليشيات موالية لإيران، كعصائب أهل الحق وحزب الله-العراقي، وسنعتبر معركتنا ضد احتلال جديد". ويضيف "نحن لا نتمنى الحرب، بل نريد إعادة المدينة إلى وضعها الطبيعي ولا نريد إلا كرامتنا، ورئيس الحكومة يهدف إلى تحقيق مكسب انتخابي خاص به في معركته ضد الفلوجة، لذلك سنقاتل..".

وفي بغداد، يشدد نائب رئيس الوزراء العراقي، صالح المطلك، على ضرورة إعادة مدينة الفلوجة إلى وضعها الطبيعي "لكن ليس بواسطة الحل العسكري". ويوضح "جرّبته الولايات المتحدة سابقاً وفشلت في معركتيها الأولى والثانية ودفع الطرفان ثمناً كبيراً".

ويؤيد نائب رئيس مجلس محافظة الانبار، حميد الهاشم، ما ذهب إليه المطلك. ويحذّر من أن الحل العسكري في الفلوجة ستكون له انعكاسات سلبية على كل العراق. ويقول، في حديث لـ"العربي الجديد": "حتى الآن حكومة بغداد تستشيرنا في التعامل مع الأزمة، ونحن نتواصل مع أهل الفلوجة، الذين يجمعون على رفض دخول الجيش". ويضيف "أعتقد أن الفلوجة ستتحول إلى بقعة زيت تتمدد على ثوب العراق المرقّع أصلاً، لذا نؤيد الحل السياسي لمنع استغلال الإرهابيين أزمة الفلوجة للاستقواء وإيجاد حاضنة لهم فيها، لأن جميع الأطراف في الفلوجة هدفها واحد هو محاربة الجيش".

ويعتقد أحد الأكاديميين في جامعة الانبار، الدكتور هيثم سعيد، أن التوصل إلى حل سياسي "ممكن لكنه صعب". ويقول لـ"العربي الجديد" إن "الجيش العراقي لا يملك خبرة كافية لدخول المدينة، وإذا حاول اقتحامها فإنه سيتكبد خسائر جسيمة، لذلك هو يكتفي بالقصف المدفعي على المدينة حالياً.

ويشدد سعيد على أن "الضغوط الأميركية على المالكي لكسب ود العشائر وسماع مطالبهم، دليل على أن واشنطن مقتنعة بأن أزمة الفلوجة هذه المرة ليست بسبب وجود القاعدة، كما تدعي بغداد، بل بسبب المطالب الشعبية من قبل الاهالي".

ويلفت سعيد إلى أن "واشنطن تسعى حالياً إلى حثّ المالكي على سماع مطالب السكان لعزل القاعدة عنهم"، مضيفاً "لذلك أعتقد أن المالكي سيجبر على الوصول الى حل سياسي مع الفلوجة التي أعلنت انها تحاول تجنب الحرب وتريد التفاوض شرط عدم دخول الجيش".

وبين خيار الحل العسكري والحل السياسي، تتحدث المنظمات الإنسانية عن أن الوضع الإنساني في المدينة ينذر بكارثة. ويقول مدير جمعية السلام الإنسانية في الفلوجة، محمد علي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "الوضع الإنساني في المدينة صعب للغاية، فالفلوجة محاصرة منذ شهر ونصف شهر ولم يدخل لها أي مواد غذائية والأدوية شارفت على النفاد من مستشفيات المدينة بالتزامن مع تزايد أعداد الذين يسقطون جراء القصف العشوائي أو المعارك".

ويلفت علي إلى أن "أكثر من ثلاثة آلاف عائلة تعيش في ظل انقطاع الكهرباء والماء والاتصالات، مبيّناً أن "تحصينات المسلحين والألغام التي زرعوها وحصار الجيش للمدينة حالت دون دخول المواد الغذائية والدوائية إلى المدينة".

المساهمون