العراق.. نهاية اللعبة أم بدايتها؟

العراق.. نهاية اللعبة أم بدايتها؟

04 ديسمبر 2019
+ الخط -
لم تنته اللعبة بعد، لا بل يمكن القول إنها بدأت الآن من جديد في فصولها الأكثر إثارة، وأولى خيوطها السعي المحموم لسرقة الانتفاضة/ الثورة وتجييرها الوجوه السياسية نفسها التي لم تتفجر الانتفاضة إلا من أجل اجتثاثها. 
ثمّة من يدعو إلى لفت الانتباه إلى طروحات رجال "العملية السياسية" عما يرونه بعدما وصلت البلاد إلى هذا المنعطف الدموي الخطير الذي استنزف أكثر من عشرين ألفا بين شهيد ومصاب ومغيب لا يُعرف مصيره، فقد استعار نوري المالكي المصطلح العتيق "الفوضى الخلاقة"، ليدمغ به انتفاضة الشباب، زاعما ارتباطها بأناس من خارج الحدود، وداعيا الكتل السياسية إلى إنجاز ما سمّاه "المشروع الشعبي الوطني". واقترح حيدر العبادي تشكيل حكومة جديدة، واضعا نفسه خارجها، وتنظيم انتخاباتٍ برلمانية "بشراكة مع الأمم المتحدة". فيما أقر إياد علاوي بمسؤولية العملية السياسية في إراقة الدماء، ورأى "تقويضها وإعادة بنائها سلميا". وعبّر زعيم مليشيا العصائب، قيس الخزعلي، عن موقفٍ ملتبس، زاعما أن أمره "يتبع أمر المرجعية"، أي أنه يدعم التعجيل بتأليف حكومةٍ جديدةٍ، كي لا تنتقل السلطة إلى الآخرين، كما أفصحت مرجعية النجف في جمعةٍ سابقة. وطالب مقتدى الصدر بتشكيل "حكومة بعيدة عن التدخلات الأجنبية"، هل المقصود تدخلات أميركا أم تدخلات أميركا وإيران معا؟ لا أحد يعرف! وفي السياق نفسه، حذرت كتائب حزب الله ومليشيا سيد الشهداء المواليتان لإيران من مغبة "انزلاق البلاد نحو حربٍ أهليةٍ أول من سيحترق بنارها العدو الأميركي والبعث ودعاة الانحلال والأشرار". هذا الاصطفاف الشرير المخادع في المعنى والمبنى يكشف عن مدى الرعب الكامن لدى أولئك الساسة الذين زرعهم بول بريمر حاكم العراق بعد الاحتلال، والذين حملوا راية الولاءات المتعددة لأكثر من دولة وجهة، أما الآخرون من السدنة الصغار فقد فضلوا الصمت أو الكلام الهامس وانتظار من سترجح كفته كي يحددوا موقع مرابط خيلهم!
هكذا شرع هؤلاء في إعادة تموضعهم لتجنب وصول ألسنة لهب النيران إليهم، وإلى ثرواتهم التي غنموها، ولمواجهة التحدّيات التي تهدّد الهيمنة الإيرانية على البلاد التي قصمت ظهرها، ولم يجن العراقيون في ظلها سوى العلقم المر.
ثمّة من يدعو أيضا إلى لفت الانتباه إلى ما يفعله الأميركيون والإيرانيون في العراق، وهما الطرفان الراعيان للعملية السياسية الماثلة، حيث على السطح وتحته أيضا ما يوحي بتزايد 
اهتمامهما لمعرفة ما ستؤول إليه الأحداث، وضبط إيقاع ردود أفعالهما على وفق ذلك. ومعروف أنهما كانا حاضريْن في قلب المشهد العراقي، وفي تداعياته المحتملة، إذ قدم إلى العراق نائب الرئيس الأميركي، مايكل بنس، حاملا "قلقه من تصاعد نفوذ إيران"، وسرعان ما أعقبه مساعد وزير الخارجية، ديفيد شينكر، الذي طالب حكومة بغداد بإجراء تحقيق شفافٍ في حوادث العنف، ومعالجة مطالب المنتفضين. وبحسب ما نقله لنا سفير عراقي سابق مقيم في واشنطن على صلة بمسؤولين في الإدارة الأميركية، فإن الرئيس دونالد ترامب مقبل على إطلاق "عملية تأديب" تشمل عقوبات اقتصادية على مؤسسات ومليشيات وشخصيات سياسية عراقية محسوبة على إيران، وتحقيقات وإحالات إلى القضاء في قضايا فساد، على أن لا تصل تلك الإجراءات "التأديبية" إلى مدى أبعد من ذلك، ولضمان ضربٍ من الهارموني المحسوب مع طهران، ولو في أدنى درجاته.
أما على صعيد رد الفعل الإيراني، فقد لعب قاسم سليماني، ممثل خامنئي، جهدا محموما ضمن "خلية أزمة" شكلت بتوجيهٍ منه لمعالجة تداعيات الانتفاضة، خصوصا بعد رفعها شعار الخروج الإيراني من العراق، وإقدامها على حرق مؤسسات إيرانية وتدميرها في أكثر من مدينة، وتمزيق صور رموز إيرانية، تعبيرا عن نقمة العراقيين على ما فعلته إيران ببلادهم.
ورجوعا الى رؤية الدبلوماسي العراقي السابق، لن يقبل الإيرانيون بإضعاف هيمنتهم على العراق الذي يعتبرونه موقعهم المتقدّم نحو البحر الأبيض المتوسط، ويريدونه مسرحا لحرائق الإقليم، من دون أن تصل تلك الحرائق إلى عقر بلادهم. ولذلك سيفعلون ما بإمكانهم فعله لإبقاء سيطرتهم، حتى لو أدّى ذلك إلى مزيد من جريان الدم، وليست لديهم مشكلة أبدا في أن تتحوّل أرض الرافدين إلى مقبرة جماعية كبيرة لشباب العراق وشاباته.
هذا كله يعني أن اللعبة لم تنته بعد، بل هي في بدايتها، وإلى شباب الانتفاضة وشيوخها نقول: انتبهوا.. انتبهوا مرة ومرتين وثلاثا.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"