الطيور المهاجرة لم تعد تحط في بغداد

الطيور المهاجرة لم تعد تحط في بغداد

09 مارس 2016

زهير الدجيلي .. رحل وفي قلبه غصة

+ الخط -
لكأنما كتب على مبدعي العراق، شعراء وروائيين وكتاباً وفنانين، أن يعيشوا ملاحم النفي والاغتراب والتشرد، جيلا بعد جيل، حتى أضحى الاغتراب، اختياراً أو قسراً، أو حتى عزلة وتوحداً داخل حدود البلاد، سمة ملازمة لعشراتٍ من مبدعي هذا البلد الذي أودع الله فيه خزائن علمه وحكمته.
وكما ترك ابن زريق البغدادي، قبل ألف عام، قصيدته اليتيمة المعروفة التي تحكي لوعته وحنينه، ومعاناته في الحل والترحال، فقد ترك لنا شاعر الأغنية العراقية، الراحل أخيراً، زهير الدجيلي، عشرات الأغنيات التي يحكي فيها، هو الآخر، لوعته وحنينه، لعل أشهرها الأغنية التي تجري على ألسنة مغتربي العراق ليل نهار، حتى وصفت بحق بسيمفونية التيه العراقي، "يا طيور الطايرة"، وكان البغدادي قد أحب فاغترب، فعانى لوعةً وحنيناً حتى مات، مثله كان الدجيلي، أحب وطنا، كرّس حياته كلها من أجله، وقضى أكثر من نصف عمره وهو يلهث، مرتحلاً بين هذه المحطة وتلك، يعدّها واحدةً واحدةً، لعله يجد فيها رسم محطته الأولى، العراق، التي وهبها حياته وشعره وقلمه، واختزن مدنها، وأهلها، وأنهارها، وأشجارها، وطيورها، وأغنيات أطفالها ملء سمعه وبصره، وظل يسأل ويأمل، يُجاهد ويُجالد حتى أدرك، وهو في نهايات عمره، أن حكمة الحياة هي نفسها حكمة الموت، وأن العمر تحول إلى محطات:
"يمته تسافر يا قمر وأوصيك/ والوادم البيها الأمل تدليك/ كبلك ردت لي مسافر لديرة هلي/ اشكد دورت ما حصلت/ صار العمر محطات/ عديتهن ومامش عرف/ وكل العمر محطات"
على امتداد ملحمة حله وترحاله، ظل زهير أممياً مخلصاً لفكره حد النخاع، نظر إلى "الشيوعية" على أنها "مصير الكون، حتى لو طال هذا الزمن ألف سنة"، لكنه كان أيضاً عراقياً حد النخاع، يحلم أن تكون بلاده "أحلى وطن/ مو أرض مهجورة/ مو أرض تغزوها الذئاب/ والبشر مذعورة". ولم تمنعه "شيوعيته" من مواجهة حزبه بالنقد مرّة، وبالعتاب مرّات، وهو يلحظ جحوده ليس له حسب، إنما لأهل البلاد كلهم، "أرجوك يا عمري انتبه/ الدنيا صارت مقتله/ وأمريكا هي القاتلة/ لا تأتلف ويه الأحزاب السافلة/ ولا تضع ايدك في أيادي القتلة"، لكن الحزب لم يعبأ بصرخة زهير، ولا بصرخات غيره، ووضع يده بأيادي الغزاة، ورضي أمينه العام أن يعمل ممثلاً لطائفته في مجلس الحكم الذي أنشأه الأميركيون، كما قبل بالمشاركة في الحكومات والهيئات التي أقامها الاحتلال. عندها فقد زهير الأمل في حزبه، ولم يعد يكتب سوى لوطنه:
"حتى اللي كنت أتمنى بهم خير/ راحوا عنك وساروا مع الخانوك/ صاحوا بيك فرهود وصرت منهوب/ ما هابوك، ولا رحموك، ولا حنو عليك/ عشر سنين خلوك بعذاب وضيم/ حتى الموت مل منك، وما هدوك".
وفي آخر محطة لأيام العمر، رقد فوق سرير بارد، ممدود على أرض غريبة، لتأخذه منا غيبوبة طويلة، كان يحلم فيها بوطن "ذبح بسيوف الطوائف"، كما وصفه في آخر قصائده.
وفي غيبوبته، ضنت عليه حكومة بلاده، ومؤسساتها الثقافية، حتى بالسؤال الخاطف، أو اللفتة العابرة، لكنها عندما استسلم لقدره، ورقد في قبره، رفعت عقيرتها بالإشادة به، وبدوره في "تجديد حيوية القصيدة الغنائية، وفي مكانته الإعلامية الرائدة دفاعاً عن شعبه"، وكأنها تريد أن تبرئ نفسها من تهمة التواطؤ في قتل الإبداع والمبدعين.
هكذا رحل زهير الدجيلي، وفي قلبه غصة، لأنه لم يوفق في العودة إلى "ديرته" الأولى التي وقعت في قبضة تجار الطوائف واللصوص، وقطاع الطرق: "يا فشلة الملهوف ويدور هله/ يا فشلة الما يوصل لجنة هله".
ما يواسيه أن الطيور التي رافقته في هجرته، والتي ناشدها أن تطير إلى ديرته التي أحبها، وأخلص لها، هي الأخرى، لم تعد تحط في بغداد، وفاءً منها له.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"