السياسة الخارجية الأردنية من "منظور الدور"

14 يوليو 2014

صورتان ...عبد الله الثاني والحسين بن طلال

+ الخط -

تشعر نسبة كبيرة من الرأي العام الأردني بحالة من الإحباط وخيبة الأمل، من تواضع ردود فعل الأردن تجاه ما يحدث في غزة من عدوان إسرائيلي، إذ اقتصر الأمر على إدانة من وزير الإعلام، الناطق باسم الحكومة، كما حدث عندما اقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلي باحات المسجد الأقصى أخيراً!

ليست هي الخيبة الأولى، فهنالك خيبات متتاليات ومتراكمات، إذ، قبل ذلك، كان هنالك وجوم لدى الرأي العام من المستوى المخجل في تعامل الحكومة مع قضية اغتيال قاضٍ أردني بدمٍ بارد، على يد جنود إسرائيليين (قبل أشهر)، بينما كان في زيارة إلى مسقط رأسه في الضفة الغربية. وتمثل سبب الوجوم الشعبي بمقارنة ردود فعل الحكومة الخجولة الضعيفة بما قام به الملك الراحل، الحسين بن طلال، من إجراءات، وما اتخذها من مواقف، بعد محاولة الاغتيال الفاشلة لزعيم حركة حماس الفلسطينية، خالد مشعل، في عمان 1997، إذ وضع الملك حينها معاهدة السلام في كفّة، وتأمين العلاج الفوري من إسرائيل لإنقاذ حياة مشعل في كفّة أخرى، ولم يكتف بذلك، بل أنجز اتفاقاَ مع إسرائيل، تم على أساسه الإفراج عن الشيخ أحمد ياسين، وتلقيه العلاج في عمان، قبل عودته لاحقاً إلى غزة!

هذه مجرّد أمثلة، أو زوايا، في رؤية الأردنيين سياستهم الخارجية، حتى في العلاقة مع الحلفاء والأصدقاء العرب والغربيين، فثمّة شعور شعبي، وإدراك لدى النخبة السياسية، بأنّ الأمور تغيّرت عن العقود السابقة. صحيح أنّ الأردن، تقليدياً وتاريخياً، في معسكر الأنظمة المحافظة في المنطقة، وعلى علاقة دافئة، تصل إلى التحالف والمساعدات، مع الولايات المتحدة الأميركية ودول الخليج العربي، وتحديداً السعودية، إلاّ أنّ الملك الراحل، الحسين بن طلال، كان يتخذ قراراتٍ سياسيةً، تقع على الطرف الآخر تماماً من مواقف تلك الدول ومصالحها، في بعض الأحيان، وربما المثال البارز على ذلك حرب الخليج 1991، وحتى احتضان المكتب السياسي لحركة حماس في التسعينيات، على الرغم من أنّها كانت تنشط في العمليات العسكرية ضد إسرائيل.

ما تغيّر بين الأمس واليوم ليس طبيعة تحالفات الأردن التقليدية، إقليمياً ودولياً، إنّما ميزان هذه التحالفات، وبعبارة أدق، رؤية صانع القرار لطبيعة الدور الإقليمي وحجمه، ومستوى الطموح السياسي الإقليمي، من الالتزام بحلم الثورة الكبرى بمملكة هاشمية، لها حضورها الإقليمي المستقل، والتنافس التقليدي مع الدول المركزية العربية، إلى الواقعية السياسية،

والتخلّي عن الطموحات السياسية التاريخية، عبر رسائل واضحة وصريحة بعدم وجود أية رغبة في دور أردني في الضفة الغربية، والتخلي عن منافسة الدول العربية الأخرى على موقع الزعامة الإقليمية.

لا يأخذ الجدل بشأن هذا التغير منحى إعلامياً واسعاً، أو علنياً، لكنه، في الحلقات المغلقة، يحتل حيزاً مهماً وحيوياً من النقاش، بخاصة في الآونة الأخيرة. فالنخبة السياسية الفاعلة، اليوم، تجادل بأنّ هذا التحول الجديد في التخلّي عن الدور الإقليمي الطموح أفضل للأردن، وجلب له درجة أكبر من الواقعية والاستقرار والمساعدات الكبيرة، وأمّن له شبكة حماية دولية وإقليمية، ودفع إلى التركيز على الشأن المحلي، والاقتصادي تحديداً. بينما تجد نخبة سياسية أنّ هذا التحوّل أضعف  أوراق الأردن الإقليمية، وقدرته على تقديم نموذج مستقل، ورسم السياسة الخارجية بدرجة أكثر من الاستقلالية. وبعيداً عن التبعية، فالأردن تأسس على قاعدة الموقع الجيو- استراتيجي، وتكمن أهميته ومكانته من حجم الدور الإقليمي، وقدرته على قول كلمة "لا"، في فترات معينة، واحتفاظه بهامش جيد من الحركة الديبلوماسية مع إسرائيل والحلفاء العرب والغربيين.


لا ينكر الاتجاه الثاني أنّ الأردن عزّز، خلال الأعوام الماضية، علاقاته مع حلفائه، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية ودول الخليج العربي، وأمّن حجماً أكبر بكثير من الدعم المالي والاقتصادي، مما كان يقدّم تاريخياً وتقليدياً له، إذ أصبحت هذه المساعدات تشكّل نصيباً كبيراً من الموازنة العامة، إلاّ أنّ ذلك لم يكن بلا ثمن كبير وحقيقي، ويتمثّل في تخلّي الأردن عن موقع الزعامة والنديّة في الدور المركزي، بالانتقال إلى مفهوم الدور التنفيذي والثانوي.
وفقاً لوجهة النظر هذه، حتى المساعدات الخارجية الوافرة التي تساعد الاقتصاد الوطني كثيراً اليوم، باتت أقرب إلى طابع "الصدقات" والإحسان، وليس الشعور بالمكانة الاستراتيجية والمهمة للأردن، ولا إقراراً بها، بل تكريساً لصيغةٍ مختلفة من العلاقة بين الأردن وحلفائه، تقوم على اعتماد الأردن اقتصادياً على المساعدات، والتزامه ديبلوماسياً بالسير في الخطّ نفسه لهذه التحالفات!

بالضرورة، يبقى هذا التحول في منظور الدور نسبياً، ليس حدّياً، مرتبطاً بالتطورات الإقليمية المحيطة، ومتذبذباً، فالتقييم العام له لا ينبني على مدى صحّة هذا الاتجاه أو ذلك، ولا على أفضلية سياسةٍ على أخرى، فالمسألة تبقى نسبيةً وجدلية، وتعكس اختلافاً في تعريف المصالح الوطنية والحيوية بين الاتجاهين. لكن، تبقى إحدى أهم زوايا هذا التحول في أنّه يكشف - في بنيته الأساسية - عن الفروق الكبيرة في تفكير "صانعي القرار" بين العهدين والمرحلتين، أي مرحلة الملك الحسين، ورؤيته لمفهوم الدور وطبيعة رسم السياسات الخارجية، والملك عبد الله الثاني، ويكشف، أيضاً، حجم الاختلاف في تحديد أولويات السياسة الخارجية، وحجم الطموح السياسي، وفي اختلاف ثقافات الأجيال المتعاقبة وآرائها في الحكم، والمؤشرات المستقبلية على استمرار ذلك التحول إلى حدود القطيعة مع العهد الأول خلال السنوات المقبلة. 
 

 

محمد أبو رمان
محمد أبو رمان
أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية والمستشار الأكاديمي في معهد السياسة والمجتمع.