25 فبراير 2022
الدولة والمواطن والبدون
كتب أمجد ناصر، قبل أيام، في "العربي الجديد"، نصاً أنيقاً، ذكر فيه أن مجيء الدولة قيّد حركة الناس، وضيّق على حريتهم وعلاقتهم بالمكان. أُضيفُ إلى ذلك أن مجيء الدولة الحديثة، ومبدأها السيادة، هو الذي أنتج ظاهرةً جديدةً، لم تعرفها البشرية قبل ذلك، هي ظاهرة اللاجئين عديمي الجنسية (أو البدون لدى العرب)، ما اختزل المبدأ الحقوقي الذي كان سائداً قبل ذلك (وأقول المبدأ. لا أتحدث عن الانتهاكات. عن الفجوة بين الكلمات والأشياء)، وأعني به مبدأ "حقوق الناس" الشامل كل البشر، وليس إلى حقوق المواطن الذي يستبعد مبدأه غيرَ المواطنين.
قبل الحداثة، كانت الحقوق تستمدّ ضمانها من البنى التقليدية للاجتماع، أي من خارج الدولة: من المجتمع الأهلي، كالعشيرة والطائفة الحرفية أو الملّة، وغير ذلك. في الدولة الحديثة، ونموذجها الدولة الأوروبية، جرى اختراع مفهوم الفرد، وصنوه المواطن، والشعب السيّد (أو الشعب الأمير) المتكوّن نظرياً من الأفراد/ المواطنين الذين تمثلهم الدولة. هكذا، ألغت الدولة الحديثة عملياً الحلقات الوسيطة (المجتمع الأهلي) التي كانت تضمن حقوق الناس تجاه السلطة، وهذه، دائماً، غاشمة. والمفارقة أن هشاشة الفرد صارت تزداد باطّراد مع ازدياد التأكيد على مركزيته مواطناً في نظام التمثيل السياسي، وعلى محوريته في شرعية النظام القائم. تذرّر الفرد في مواجهة آلة الدولة، وتعرّى من كل دفاع. الدولة الحديثة هي التي تنتج عديمي الجنسية، لأن مبدأها الحقوقي تخصيصي، أي استبعادي بالضرورة. فلئن كان مبدأها قائماً على المواطَنة، فهو يعني، بالتعريف، تخصيصَ المواطنين بالحماية الحقوقية، واستبعاد غير المواطنين منها.
الحقوق الإنسانية تعلو على كل حق، وهي، نظرياً، حقوقٌ لا تُنتقَصُ، أو لا تقبل النقصان. فهي، كالحرية، إما تكون كاملة، أو لا تكون أبداً. لكن المفارقة تكمن، بالضبط، في أن الدول التي تنتهك هذه الحقوق، هي نفسها التي أولت منظمة دائمة بأمر هذه الحقوق الإنسانية، هي منظمة الأمم المتحدة وهيئاتها المنبثقة عنها. لكننا نعرف في التاريخ المَعيش، وليس التاريخ النظري الذي يجري في الرؤوس، أن وضْعَ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان موْضِعَ التطبيق لا يمرّ إلاّ عبْر الدولة، والتي تنتهك، بنفسها، هذه الحقوق. الدولة هي التي تعتمد هذه الحقوق، وهي التي تنتهكها، في كل مرة وجدت ضرورة لذلك، كي لا نقول إنها تنتهكها من غير توقف. وإلا من أين أتت أفواج البدون في العالم المعاصر؟ ومَن هم أولئك البِدون من أكراد سورية وعرب وادي خالد في لبنان وبدون الكويت، وغيرهم، ومن أي كوكب هبطوا؟
اللاجئ من غير حقوق، لأنه غير مواطن. وهو غير مواطن، لأن دولةً استبعدته من "نعيمها". إنه من غير "وطن"، تتسيّد عليه الدولة. في حين وهب الإعلانُ العالميُ لحقوق الإنسان إنسانَه المعمورةَ كلها وطناً له، إلاّ أنه جرّده عملياً من كل وطنٍ مُشخّص. لا مكان له من غير دولةٍ تنسبه إليها. وإذ جرى تقاسمَ المعمورة، وكلَّ حيّز فيها، بين الدول القائمة، صار المواطنُ بذلك وحده الإنسانُ الذي يتمتع في التاريخ المُتعيّن بالحقوق الإنسانية التي أعلنَ عنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. أما أفواج الذين وجدوا أنفسهم من غير دولة، وعددهم عشرات الملايين، فقد تحوّلوا إلى "فائضٍ" بشري، من غير أي حقوق على الإطلاق.
وتعني خسارة الحقوق الوطنية، تلقائياً، خسارة الحقوق الإنسانية. وخسارة الأولى تفضي تلقائياً، وبضربة واحدة، إلى خسارة الثانية.
****
لا مجال للاستفاضة؛ فالقصة تتصّل بكل هذه الحداثة التي تترنّح الآن. ويستطيع المستزيد أن يقرأ، إن شاء، نصّ النمساوي شتيفان تسفايغ (عالم الأمس. ذكريات أوروبي)، ليتعرف على كيف أن حركة هذا الأوروبي كانت تتضاءل، كلما ترسخت الدولة الحديثة، وكيف أن حريته كانت تنكمش مع اختراع جواز السفر، وازدياد أدوات السلطة وأجهزة تحكّمها تِقانةً ودقة.
أكتفي بالإشارة إلى مفارقة أخرى... في عالمنا اليوم عدد الدول التي تتسيّد على مواطنيها، وتحتل مقعداً في الأمم المتحدة، يقارب مئتين، بيد أن عدد الدول التي تحمي مواطنيها، فعلياً، قليل جداً. ويكفي أن نذكّرَ بما نعرفه، جميعنا، من أن مواطني بعضِ الدول يتحركون في جُلّ العالم، من غير حاجة إلى تأشيرة دخول، وغير ذلك من إجراءات. في حين أن رعايا عشرات من الدول الأخرى يقضون في الطرقات، بحثاً عن الوصول إلى الدّول الأولى هذه، غرقاً أو بغير ذلك من أسباب الهلاك. هل رعايا الدول الأولى هم الأحرار الوحيدون في عالم اليوم؟ أم هو الأبارتايد، ولكن، على الصعيد الكوني؟
أما حَمَلَة الوثائق من اللاجئين الفلسطينيين، فيعرفون مثلي معنى أن يعبروا الحدودَ في البلاد العربية، وغيرِها، والقلقَ العُصابيّ الذي يتلبّسُهم، لحظةَ تفحصّ أوراقهم في المعابر من رجال المخافر الحدودية.
قبل الحداثة، كانت الحقوق تستمدّ ضمانها من البنى التقليدية للاجتماع، أي من خارج الدولة: من المجتمع الأهلي، كالعشيرة والطائفة الحرفية أو الملّة، وغير ذلك. في الدولة الحديثة، ونموذجها الدولة الأوروبية، جرى اختراع مفهوم الفرد، وصنوه المواطن، والشعب السيّد (أو الشعب الأمير) المتكوّن نظرياً من الأفراد/ المواطنين الذين تمثلهم الدولة. هكذا، ألغت الدولة الحديثة عملياً الحلقات الوسيطة (المجتمع الأهلي) التي كانت تضمن حقوق الناس تجاه السلطة، وهذه، دائماً، غاشمة. والمفارقة أن هشاشة الفرد صارت تزداد باطّراد مع ازدياد التأكيد على مركزيته مواطناً في نظام التمثيل السياسي، وعلى محوريته في شرعية النظام القائم. تذرّر الفرد في مواجهة آلة الدولة، وتعرّى من كل دفاع. الدولة الحديثة هي التي تنتج عديمي الجنسية، لأن مبدأها الحقوقي تخصيصي، أي استبعادي بالضرورة. فلئن كان مبدأها قائماً على المواطَنة، فهو يعني، بالتعريف، تخصيصَ المواطنين بالحماية الحقوقية، واستبعاد غير المواطنين منها.
الحقوق الإنسانية تعلو على كل حق، وهي، نظرياً، حقوقٌ لا تُنتقَصُ، أو لا تقبل النقصان. فهي، كالحرية، إما تكون كاملة، أو لا تكون أبداً. لكن المفارقة تكمن، بالضبط، في أن الدول التي تنتهك هذه الحقوق، هي نفسها التي أولت منظمة دائمة بأمر هذه الحقوق الإنسانية، هي منظمة الأمم المتحدة وهيئاتها المنبثقة عنها. لكننا نعرف في التاريخ المَعيش، وليس التاريخ النظري الذي يجري في الرؤوس، أن وضْعَ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان موْضِعَ التطبيق لا يمرّ إلاّ عبْر الدولة، والتي تنتهك، بنفسها، هذه الحقوق. الدولة هي التي تعتمد هذه الحقوق، وهي التي تنتهكها، في كل مرة وجدت ضرورة لذلك، كي لا نقول إنها تنتهكها من غير توقف. وإلا من أين أتت أفواج البدون في العالم المعاصر؟ ومَن هم أولئك البِدون من أكراد سورية وعرب وادي خالد في لبنان وبدون الكويت، وغيرهم، ومن أي كوكب هبطوا؟
اللاجئ من غير حقوق، لأنه غير مواطن. وهو غير مواطن، لأن دولةً استبعدته من "نعيمها". إنه من غير "وطن"، تتسيّد عليه الدولة. في حين وهب الإعلانُ العالميُ لحقوق الإنسان إنسانَه المعمورةَ كلها وطناً له، إلاّ أنه جرّده عملياً من كل وطنٍ مُشخّص. لا مكان له من غير دولةٍ تنسبه إليها. وإذ جرى تقاسمَ المعمورة، وكلَّ حيّز فيها، بين الدول القائمة، صار المواطنُ بذلك وحده الإنسانُ الذي يتمتع في التاريخ المُتعيّن بالحقوق الإنسانية التي أعلنَ عنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. أما أفواج الذين وجدوا أنفسهم من غير دولة، وعددهم عشرات الملايين، فقد تحوّلوا إلى "فائضٍ" بشري، من غير أي حقوق على الإطلاق.
وتعني خسارة الحقوق الوطنية، تلقائياً، خسارة الحقوق الإنسانية. وخسارة الأولى تفضي تلقائياً، وبضربة واحدة، إلى خسارة الثانية.
****
لا مجال للاستفاضة؛ فالقصة تتصّل بكل هذه الحداثة التي تترنّح الآن. ويستطيع المستزيد أن يقرأ، إن شاء، نصّ النمساوي شتيفان تسفايغ (عالم الأمس. ذكريات أوروبي)، ليتعرف على كيف أن حركة هذا الأوروبي كانت تتضاءل، كلما ترسخت الدولة الحديثة، وكيف أن حريته كانت تنكمش مع اختراع جواز السفر، وازدياد أدوات السلطة وأجهزة تحكّمها تِقانةً ودقة.
أكتفي بالإشارة إلى مفارقة أخرى... في عالمنا اليوم عدد الدول التي تتسيّد على مواطنيها، وتحتل مقعداً في الأمم المتحدة، يقارب مئتين، بيد أن عدد الدول التي تحمي مواطنيها، فعلياً، قليل جداً. ويكفي أن نذكّرَ بما نعرفه، جميعنا، من أن مواطني بعضِ الدول يتحركون في جُلّ العالم، من غير حاجة إلى تأشيرة دخول، وغير ذلك من إجراءات. في حين أن رعايا عشرات من الدول الأخرى يقضون في الطرقات، بحثاً عن الوصول إلى الدّول الأولى هذه، غرقاً أو بغير ذلك من أسباب الهلاك. هل رعايا الدول الأولى هم الأحرار الوحيدون في عالم اليوم؟ أم هو الأبارتايد، ولكن، على الصعيد الكوني؟
أما حَمَلَة الوثائق من اللاجئين الفلسطينيين، فيعرفون مثلي معنى أن يعبروا الحدودَ في البلاد العربية، وغيرِها، والقلقَ العُصابيّ الذي يتلبّسُهم، لحظةَ تفحصّ أوراقهم في المعابر من رجال المخافر الحدودية.