الدراجة لا تحتاج إلى علف!

01 مايو 2014
+ الخط -

ماذا بقي من الصحراء؟
بقي الفضاء الذي لا يُحدّ. بقي الرمل. بقيت الريح تعصف وتذرو. بقي الحرُّ والقرّ. بقي العطش. بقي السراب. بقيت أعشاب وشجيرات تكافح، بمعجزة الطبيعة، ضراوة المناخ. بقي كل ذلك لكن لم يبق أهل الصحراء. فجأة تبخروا كما تتبخر قطرة ماء في الصحراء. عشرات القرون انطوت بطرفة عين. هؤلاء الذين قهروا الشمس التي تصب نحاسا مصهورا على الرؤوس، والليل الذي ترتجف في زمهريره الكائنات الخفية، الذين روضوا الجوع والعطش، وآخوا الوحوش، ونجوا من آفة الانقراض لعشرات القرون.. انقرضوا مع أول هبوب لرياح "المدنية" على الصحراء.
مع مجيء الدولة راحت تتحدد مساحات الحركة، وتُسيّج الحدود وتُرفع الأعلام، ويصبح الترحّل، الطبيعة الأولى لأبناء الصحراء، محتاجا الى جواز سفر وختم.
الطائفة البشرية الوحيدة، التي قضت عليها الدولة الحديثة، هي البدو. فالفلاحون ظلوا فلاحين (إن أصبحوا العكس، فذلك قرارهم)، نواة التمدّين توسعت وصارت نموذجا للمستقبل الذي تسعى اليه الدنيا. لكن البدو لم يستطيعوا أن يتأقلموا مع الدولة. إما هم أو الدولة. فقبل الدولة كانوا هم دولة أنفسهم. هم حكومتها. هم الذين يضعون القانون ويحدِّدون العقاب. هم أطباء أنفسهم. بيد أن هذا لم يعد ممكنا مع وجود الدولة، التي تسعى الى صياغة عقد اجتماعي لم يألفه البدو من قبل. التنازل عن جزء من حريتهم، لقوة أعلى، جديد عليهم. لكن ما بدا صعبا، بل مستحيلا، حصل من دون مقاومة تذكر: لقد تمكنت الدولة من تذويب البدو في بوتقتها.
لم يذوبوا تماما لكنهم لم يعدوا كما كانوا. 
أتحدث هنا عن الحالة الأردنية التي تشبه، على الأرجح، ما جرى في الشريط الطويل الذي كانت تعبره القبائل، من قبل، بحثا عن "الكلأ والمرعى" وفرارا من الثارات: شريط يمتد من بادية حمص في سورية، وينتهي في هضبة "نجد" في ما يسمى اليوم "العربية السعودية"، مرورا بالأردن من جهة، وفلسطين، التي ينتهي ترحال القبائل إليها في سيناء.

جاءت الدولة الحديثة في العقد الثالث من القرن العشرين لتنهي تدريجياً حياة البدوِ وتؤذن بنهاية أسطورة الصحراء، وتربط القبائل، التي لم ترتبط من قبل إلا بمواثيقها وأعرافها، بمواثيق وأنظمةٍ جديدةٍ لن تكون قادرة على مقاومتها والعيشِ خارجها طويلا.. أي باختصار، جاءت الدولة الأردنية، التي تنهل هي أيضا من مناهل ثقافية واجتماعية شبه بدوية، لتذيب ما سماه ابن خلدون العصبية الصغرى، أي العصبية القبلية، في عصبية كبرى، هي الدولة.


***

لعل الانجليز، بما عُرِف عنهم من دهاءٍ وصبرٍ، يشبهانِ دهاء البدوي وقدرته على التحمّل، كانوا أكثر الذين عرفوا الصحراء العربية وعاشروا البدو، لذلك ربطوا البدو بالأمير مباشرةً، كشيخٍ أعلى لهم، لا بالدولة الناشئة نفسها، لا بالأرض. فالبدو لم يعرفوا، بالمفهوم الذي نتداوله الآن، الولاء للأرضِ و"الوطن". فليس لهم وطنٌ ثابتٌ، أو أرض محدَّدة لا يبرحونها، وطنهم هو، إلى حد كبير، عشيرتهم نفسها، وعالمهم هو عالم تحالفات العشيرة أو عداواتها.
ورُغم أن السلالة الهاشمية، التي أسست الكيان الأردني عام 1921، ليست بدوية المنشأ، بل من الحجاز، الجزء الأكثر تمديناً في شبه الجزيرة العربية، إلاّ أنها أعطت البدو انطباعاً، دائماً، بأنها مثلُهم... ومنهم. 
فالهاشميون، حتى عندما كانوا في الحجاز، اعتمدوا في علاقتهم (واستمدوا بعض قوتهم) من تحالفاتهم القبلية في وجه خصومٍ قبائليين أشداء، مثل آل سعود الذين يتحدَّرون، على ما تقول الروايات، من أحد بطون قبيلة "عنزة" الشهيرة، واعتمدوا، أيضا، على تحالفات قبيلة، ذات عصبية دينية متشددة، في مواجهة الهاشميين من جهة، وخصومهم التقليديين آل الرشيد، شيوخ قبيلة "شمر" من جهة ثانية. 
هذا الانطباع عن "بداوة" الهاشميين عزَّز أكثر، عند بدو الأردن، البعد السلالي الديني للهاشميين، الذي ربما، لم يكن كافيا، وحده، ليجمع حولهم هذه القبائل التي لم تعترف، من قبل، بسيادة أحد عليها بما في ذلك "الباب العالي"، ويغرس البذرة الأولى للدولة الأردنية.

والطريف في الأمر أن التمردات الأولى على الدولة الأردنية، الطالعة من رحم "سايكس بيكو"، لم يقم بها البدو الرحل بل بعض البدو المستوطنين كـ "العدوان"، أو فلاحين كالشيخ كليب الشريدة في منطقة الكورة، شمالي الأردن، فربما اعتبرت هذه القبائل المستقرة، إضافة الى عشائر فلاحية أخرى، مجيء الهاشميين، بمن معهم من العرب، ومحاولة تشكيلهم زعامة وكيانا جديدا، تحديا لسلطتها على مجالها وإضرارا بمصالحها، بينما لم تر القبائل البدوية الصرف الأمر على هذا النحو، فهم يسيطرون على مجال لا ينافسهم عليه أحد (إلى حين طبعا): الصحراء.


***

صُعِقَ المستعرب الأميركي وليم بولك (مترجم معلقة لبيد الصعبة الى الانجليزية) عندما زار البادية الأردنية عام 1970، بعدم تطابق تصوّره عن الصحراء وأهلها مع واقعهم.. على الأقل في الأردن.
كان بولك قادما من السعودية على ظهر ناقة، كما يليق بمستعربٍ يريد أن يختبر حياةً قريبةً من مادة "بحثه"، ولما صار بالقرب من مضارب إحدى القبائل الأردنية استضافه شيخها في "شِقِّه".
لاحظ بولك أمرين أثارا عجبه ولم يطق عليهما صبرا: الأول، الدراجة الهوائية المسنودة إلى أحد أعمدة "بيت الشَّعر"، والثاني، الراديو القريب من متكأ شيخ القبيلة.
فقال بولك لمضيفه الأردني، بنبرةٍ كلها استغراب وخيبة أمل: ما الذي جرى لكم أيها البدو؟
بدل الشـِّعر والربابة، صرتم تستمعون الى الراديو، وبدل الحصان هناك دراجة هوائية مسنودة الى عمود الخيمة؟
ردَّ عليه شيخ القبيلة الأردني بشيء من السخرية، التي تعكس الواقع المتغير، قائلا:
الدراجة لا تحتاج الى علف!

E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن