الحصار مقلوباً.. الخوف من الفلسطيني المسالم

27 فبراير 2016
(تصوير: حمدي أبو رحمة)
+ الخط -

في قلب العالم الاستعماري خطابات أساسية متعلقة بالذات مقابل الآخر، وقلب العلاقة الاستعمارية رأساً على عقب يتطلب محاولة تفكيكها. وفي الواقع يقوم الفلسطينيون بذلك، إذ يتحدون نظام الثنائيات الذي تقوم عليه العلاقات الاستعمارية. الفعل والحراك الفلسطيني، وواقع الجغرافية والديمغرافية تجعل الإسرائيلي يتواجه مع الفلسطينيين شاء أم أبى. بمعنى آخر يصطدم مع ذلك الجانب من ذاته الذي يحاول عدم التفكير فيه.

وجود الفلسطينيين وكيانهم وتحركهم يخيف الإسرائيليين، ولكن أكثر ما يخيف الفكر الصهيوني هي أنسنة الفلسطينيين. هي أن ينظروا إلى الفلسطينية على أنها إنسانة عادية. تعيش وتسافر وتنتج وترتدي لباساً جميلاً وتبدع، ولها مشاعر مثلها مثل الإسرائيليين.

إسرائيل الحالية تحاول فرض نظام ثنائي وتنميط صورة الفلسطينيين. تعيش حالة انفصام ونكران، ولا تجرؤ على مواجهة ذاتها، ذاتها التي تتضمن ذلك الجانب حول اختراقاتها الذي تتكتم عليها. يمكن النظر إلى هذه العلاقة بناء على بعض الخطابات الصهيونية حول المكان والرغبة والنقيض.


يوتيوبيا "المستعمرة الفاضلة"؟
قامت الأيديولوجيا الصهيونية على أفكار وتطلعات معينة لدولة عصرية، ومع مرور السنوات، أحبط السياسيون الإسرائيليون أحلام مؤسسي "دولتهم". اليوم إسرائيل ليست "بلد العسل والحليب" التوراتية المنشودة، كما أنها بعيدة كل البعد عن تطلعات حركات الكيبوتسات ونظرتهم إلى المجتمع والعلمانية، وأحلام (أوهام بالأحرى) بعض دول أوروبا الشرقية والغربية لقيام "دولة إسرائيل".

خذلت النخبة السياسية الحالية أحلام غولدا مئير وبن غوريون، وبعض المهاجرين الذين تركوا كل شيء كي يستوطنوا في "البلد الموعود". اليوم الاقتصاد الإسرائيلي يواجه الضغط، والسياسات الإسرائيلية لا تساعد في ذلك.

إسرائيل محاصرة بالأسئلة، الاحتلال معرّض للنقد ولتراجع الدعم من قبل بعض اليهود التقدميين في الشتات، يعاني من غلاء المعيشة وارتفاع نسب الفقر، واستئثار نخبة معينة بالسلطة، وهجرة لا سيما في أوساط الشباب إلى الخارج، والشعور بالإحباط العام.

مقابل عدة أزمات داخلية وخارجية، يتعمّد النظام العسكري-الديني-السياسي الإسرائيلي تبرير شرعية وجوده "البطولي" عبر تركيزه على دوره في "الدفاع". حالة "عدم الاستقرار" و"التعرّض للاعتداء" وهي حاجة ملحة للنظام الصهيوني، خاصة في السنوات السبع الأخيرة، ولذلك يتعمّد أحياناً استفزاز الغضب الفلسطيني. اقتصادها-السياسي يستفيد من كونها ضحية لا جانياً وهنا المعضلة.

في الداخل، نلاحظ خطاباً ذكورياً عسكرياً قائماً على "الدفاع" "المدني" "المتحضّر" على الطراز الغربي، على نقيض "الضحية المتحضرة المعرّضة للخطر".

يجري تأطير الفلسطينيين إما بخطاب قائم على التبعية والاستعباد والاستعلاء باعتبارهم "عرفيم" (عرباً) "مفعولاً بهم"، أو كفاعلين "إرهابيين" خطرين (تعبير "ميحابيل" بالعبرية).


"ديستوبيا" التوحش كنقيض
يلاحظ لجوء النظام الإسرائيلي إلى رموز الديستوبيا، أو المجتمع الظلامي المخيف - نقيض المجتمع الفاضل أو المتحضّر أو "العالم كما نعرفه"، ونقيض اليوتيوبيا الإسرائيلية (التي لم تتحقق).

في المخيلة الصهيونية "يقبع هذا الخطر الجاهز للانفجار في أي لحظة" في مساحات محددة.
يتم استخدام تعبير "شتاحيم" (أو المناطق الداخلية-الخارجية التي تم ضمها أو الاستحواذ عليها) للإشارة إلى "الضفة الغربية" مثلاً. إنه ذلك المكان "المخيف"، "خارج" و"داخل" السيطرة، "نقيض اليوتيوبيا الإسرائيلية"، الذي يمكن أن يحدث فيه كل شيء.

إذا حدث وخرج عن تلك المساحة المقاومة أية منجزات يتم الاحتفاء بها على الصعيد العالمي، يشعر المستعمِر (بكسر الميم) بتلبّك وتشوّش الصورة. في الوقت الذي يظن فيه أن الفلسطينيين "تحت السيطرة"، يغيظه رؤية الذات الفلسطينية الفاعلة المخترقة للحدود. الاعتراف بكيان الفلسطينيين ومنجزاتهم يخيفه، لأنه يرتبط أيضاً باحتمالات المحاسبة يوماً ما على اختراقاته التي يشرّعها بديباجات مختلفة.

على غرار الأب الذي يقول لأبنائه "إذا لم تسمعوا كلامي سيأكلكم الغول"، تم حتى الآن إسقاط صورة "الغول" أو "الوحش" أو "الإرهابي" على الفلسطينيين. يحاول الجهاز العسكري الصهيوني وجماعات الاستيطان وصم الذات كـ "ضحية" واستغلال أي مقاومة فلسطينية لإعادة إنتاج علاقات الاحتلال، بطريقة تجعل "الجمهور" الإسرائيلي "يسلّم رقبته" للنظام الإسرائيلي.

تتحدى الدولة أمانها لبث هيمنتها. تصبح القيمة الإنسانية خاضعة لاستعباد رأسمال الحرب واحتواء آلة الحرب المقاومة البديلة وفقاً لدولوز وغواتاري (1980) اللذين يذكران لجوء الدولة إلى فكرة وجود جهات ذات طبيعة أو منشأ أو أصل "مختلف" أو "خارجي المنشأ" ليكون نقيضاً تحاربه.

هنا يتم التعامل مع الفلسطينية التي تحمل سكيناً باعتبارها "إرهابية خطيرة" مقابل دبابات "الدفاع" التي تقتل العشرات.

ما يسود على أرض الواقع يكاد يكون أكثر قرباً إلى حالات الإقصاء المحتوى (التي تذكرنا بطروحات أغامبين حول "حالة الإقصاء المحتوى")، التي تكون "خارج الإطار القضائي" وفي نفس الوقت هي "داخل النظام القضائي" وتمارس فيها الاختراقات والاجتياحات والمناورات العسكرية.

النظام الصهيوني يبتز "الجمهور الإسرائيلي" عبر اللعب على وتر الأمن في الوقت الذي يعرّض فيه الإسرائيليين للخطر. من المثير رؤية خطاب "رئيس وزراء" إسرائيل السابق إيهود أولمرت، في هذا السياق إثر اتهامه بالفساد، حيث يخاطب "الشعب الإسرائيلي"، ويحاول اللعب على وتر "الأمن" من منطلق "دافعت عنكم كل هذه السنوات"، بشكل يحيل موضوع الفساد جانباً ويحرف الموضوع إلى ناحية "الحرب ضد الفلسطينيين".


ما وراء التنميط
سيكولوجية القهر تتضمن الاعتداء على الحياة اليومية، وعلى العمل الثقافي الفلسطيني، والمسافرين، والنشطاء السلميين، والسعي إلى عزلهم، وفصلهم عن سبل الحياة، وتقويض تحركهم وحراكهم، ووصمهم بالتوحش.

يلاحظ أنه يصعب على النظام الصهيوني في السنوات الأخيرة التعامل مع ثلاث مجموعات تحديداً: الفلسطينيين اليساريين العلمانيين الثوريين، الفلسطينيين من الأقليات - مع التحفظ على المصطلح الأخير، والفلسطينيين الناشطين في نشاطات سلمية مع الإسرائيليين المناهضين للاحتلال.

وسط نظام ثنائيات الاستعمار، يخاف النظام العسكري الإسرائيلي من صورة هذه المجموعات أمام الرأي العام العالمي. يسهل أكثر على العقلية الصهيونية خلال السنوات الأخيرة تبرير الحرب على أنها ضد "الإرهاب الإسلامي" واستغلال صورة "داعش" و"الخطر الإيراني" لتبرير سياساتها.

يلاحظ مثلاً كيف قام نتنياهو شخصياً خلال الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة بتمثيل هذا الدور، حين ظهرت دعاية انتخابية تظهر مجموعة من أفراد داعش تهاجم إسرائيل، ثم يخرج نتنياهو في الدعاية لكشف عضلاته العسكرية بأنه "القادر" على "حماية إسرائيل" من التطرف الإسلامي (مقابل اليسار غير الآبه بالعسكر) في الوقت الذي تغذي فيه سياساته الفكر التكفيري، بل تعتمد على وجوده.

إن أكثر ما يخشاه المستعمِر هو أنسنة المستعمَر، وحين يضطر أن يقرّ بإنسانية المستعمَر/ة يحاول احتواءه، وإعطاء نفسه دوراً "حضارياً". أنسنة الفلسطينيين تتضمن الإقرار بالتجاوزات والجرائم الإسرائيلية. هي الإقرار بالاحتلال مجرّداً من المبررات. البنية الاجتماعية-النفسية الصهيونية لا تتجرأ أو تريد أو تحتمل الإقرار بما ارتكبته.

في الوقت الذي تسعى فيه الدولة/النظام الاستعماري إلى إعادة إنتاج المكان القائم على السيطرة، تتمثل المقاومة بالعمل على إعادة تعريف المكان بقوته الإنتاجية، واختراق المكان، والحراك، والفعل الإبداعي، وكسر نظام الثنائيات، وتحدي الحدود. العبور وتذكير الإسرائيليين المستمر بأن الفلسطينيين موجودون لا محالة.

في الوقت الذي يحاول الإسرائيليون تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم، تتجلى المقاومة في تشبثهم بذاتهم وإنسانيتهم وحراكهم. يحنّ البعض إلى فاعلية "الانتفاضة الأولى" مقابل الانتفاضات اللاحقة. ربما يستوجب الأمر وقفة مع الذات. إلى أي مدى كانت الانتفاضات اللاحقة ذكورية عسكرية يسهل من خلالها دعم الرواية الصهيونية، وإعادة إنتاج صورة "الضحية الإسرائيلية"، مقابل الانتفاضة الأولى التي تضمنت جانباً نسوياً بيئياً ويقوم أيضاً على قدر أكبر من التقدير الذاتي؟

قد يستمر النظام الصهيوني بطرح نفسه كـ "واحة الشرق الأوسط" مقابل الدمار العربي المحيط، ولكن الأزمة الداخلية الإسرائيلية موجودة، والصمود الفلسطيني موجود.


(باحثة فلسطينية/ القدس)