الانتخابات العراقية: صعود المدنيين بمعاقل الإسلاميين وتحالفات تملك مفاتيحها واشنطن
بعد انتهاء عمليات العد والفرز لجميع المحطات الانتخابية في العراق، ووصول نتائج الاقتراع الخاص بالمغتربين وقوات الجيش والشرطة، لم يبق إلا اعتبار الانتخابات العراقية في نسختها الرابعة، بداية تغيير فعلية في الساحة العراقية السياسية، حتى بالنسبة لأكثر المتشائمين منها.
وشهدت هذه الانتخابات صعود التيار المدني أو اللاديني بشكل ملحوظ، خصوصاً في معاقل الأحزاب الإسلامية، السنية والشيعية، كما الحال في كربلاء ونينوى والبصرة فضلاً عن بغداد. كما أنها الانتخابات الأولى التي كسرت احتكار المشهد السياسي في مدن بأكملها من قبل حزبين أو ثلاثة، وخلقت القوائم المتوسطة التي لن تتمكن من الاستفراد بالحكومة أو البرلمان إلا بالتحالف مع كتل أخرى، قد تصل إلى أربع أو خمس كتل، وهو ما ينبئ بنفس الوقت ببرلمان كثير المشاكل، وحكومة غير محصنة من سحب الثقة عنها. كما أن النتائج الحالية للكتل يمكن قراءتها من أحد الأوجه أنها تصب في صالح الولايات المتحدة أكثر من إيران، التي سيكون عليها أن تبدأ مهمة مماثلة لعام 2014 في توحيد الكتل الشيعية، والتي لم تكن خلافاتها مثل ما هي عليه اليوم، إذ اتسعت أكثر وزادت عدائية. مسؤولون في مفوضية الانتخابات العراقية ومراقبون محليون أكدوا أن عهد الكتل الكبيرة، التي تحصل على ربع أو ثلث المقاعد في البرلمان، انتهى إلى غير رجعة، بسبب تشتت القوى السياسية المختلفة، السنية والشيعية والكردية، وولادة منافس رابع لهم، وهو ما بات يعرف شعبياً بالتيار المدني الذي برز، بشكل فاعل، للمرة الأولى، في العام 2011 بشعار "بغداد لن تكون قندهار"، احتجاجاً على قوانين قدمتها أحزاب إسلامية تستهدف حرية المرأة بشكل خاص والحريات الشخصية في العراق عموماً، فضلاً عن تراجع كبير في شعبية الوجوه السياسية الرئيسية التي تصدرت المشهد السياسي في العراق بعد الاحتلال.
وفي المقابل، فإن قائمة "الفتح"، التي تمثل عملياً الجناح السياسي لمليشيا "الحشد الشعبي" في العراق حصلت هي الأخرى على أصوات مهمة، وتمتلك مشتركات عديدة مع "دولة القانون"، بزعامة نوري المالكي، أبرزها الموقف الموالي لإيران. ومن المرجح في النهاية تحالفهما في كتلة واحدة داخل البرلمان. ويعتبر "ائتلاف دولة القانون"، بزعامة نوري المالكي، أبرز الخاسرين في هذه الانتخابات رغم فوزه، إذ تراجع عن الانتخابات الماضية التي حقق فيها 92 مقعداً برلمانياً إلى 25 مقعداً فقط وفقاً للنتائج الأولية للانتخابات في عموم مدن العراق، يضاف إليه "تيار الحكمة"، الذي أسسه قبل أشهر الزعيم الشيعي عمار الحكيم، عقب خروجه من "المجلس الأعلى"، يليه "المجلس الأعلى"، بزعامة همام حمودي، و"الفضيلة"، بزعامة عمار الطعمة، بعدد مقاعد لا يتجاوز العشرين مقعداً لكل منهم. كما يسجل حصول قائمة "الفتح"، التي تمثل الجناح السياسي لمليشيا "الحشد الشعبي"، على مرتبة متقدمة في نتائج الانتخابات، إلا أن القيادي في القائمة حسين الكعبي، قال لـ"العربي الجديد"، إن "النتائج لم تكن كالمرجوة، إذ كنا نعول على ما لا يقل عن 80 مقعداً برلمانياً".
وبحسب أرقام ونتائج المفوضية لأصوات المرشحين، فإن المالكي حصل على 91 ألف صوت، بينما كان حصل في انتخابات 2014 على مليون و246 ألف صوت. كما حصل إياد علاوي على 46 ألف صوت بهذه الانتخابات فيما كان حصل في الانتخابات السابقة على 982 ألف صوت، وأسامة النجيفي الذي نال نصف مليون صوت في الانتخابات الماضية حصل بالكاد في مسقط رأسه في الموصل على 21 ألف صوت، بينما حقق رئيس الوزراء حيدر العبادي 75 ألف صوت بهذه الانتخابات وهو ارتفاع كبير عن الانتخابات الماضية التي حصل فيها على ألفي صوت فقط. وفي مدن طالما احتكرتها الأحزاب الإسلامية، السنية والشيعية، طوال العقد والنصف الماضي، فازت شخصيات مدنية مستقلة، وأخرى شيوعية، خصوصاً في جنوب العراق وغربه كالبصرة ونينوى وكربلاء. وحول ذلك، قال القيادي في التيار المدني العراقي، حسام العيسى، لـ"العربي الجديد"، "إنها بداية مشجعة للغاية"، مضيفاً "حالياً، فإن المدنيين المتحالفين ضمن سائرون أو في القوائم الأخرى باتوا صوتاً مسموعاً بين الإسلاميين. وإذا وجدنا في البرلمان الجديد 30 مدنياً لا إسلامياً مثلاً، فإننا سننافس في انتخابات 2022 على رئاسة الحكومة، شرط ألا نخذل الناس ونكون عند حسن ظنهم" وفقاً لقوله.
وحل تحالف "سائرون"، الذي يتشارك به التيار الصدري مع الحزب الشيوعي وقوى وشخصيات مدنية أخرى أولاً في العراق، بينما أتت قائمة "النصر"، برئاسة رئيس الوزراء الحالي، حيدر العبادي، ثم قائمة "الفتح"، التي تمثل "الحشد الشعبي" بشكل متقارب لبعضهما البعض، يليهما بفارق كبير يصل إلى 30 مقعداً برلمانياً كتلة "دولة القانون"، بزعامة المالكي، و"الديمقراطي الكردستاني" بزعامة مسعود البارزاني، و"الوطنية" بزعامة إياد علاوي، ثم "القرار العراقي" بزعامة أسامة النجيفي، و"الحكمة" بزعامة عمار الحكيم.
وما يميز الكتل الفائزة التقاطعات الحالية فيما بينها ونقاط الالتقاء أيضاً، فكتلتا "الفتح"، بزعامة هادي العامري، و"دولة القانون"، بزعامة نوري المالكي، هما الأقرب والأكثر قبولاً لتحالف مستقبلي، وفقاً لما تكشفه مصادر قيادية في حزب "الدعوة"، قالت إن التحالف بين الكتلتين مسألة وقت لا أكثر. وفي المقابل فإن كتلة "النصر"، بزعامة العبادي، و"سائرون" بزعامة الصدر، و"الوطنية" لإياد علاوي، و"القرار" لأسامة النجيفي، و"الديموقراطي الكردستاني" بزعامة مسعود البارزاني، هي الأقرب في مسألة التحالف فيما بينها، في حين يقف "تيار الحكمة"، بزعامة عمار الحكيم، في منطقة رمادية، لا يمكن التكهن بالجهة التي سيصطف معها أخيراً. ورغم أن تاريخ العملية السياسية العراقية خلال السنوات الـ15 الماضية يؤكد أن عامل المفاجأة حاضر ولا شيء يمكن الجزم به، خصوصاً مع وجود الإملاءات الخارجية، فإن سيناريو هذا التحالف قد يهدد مصطلح البيت الشيعي الموحد أو التحالف الوطني العراقي، الذي أسس قبل أكثر من 10 سنوات، وضم بداية الأمر حزب "الدعوة" والصدريين و"المجلس الأعلى" قبل أن ينشطر وتتكاثر الكتل داخله في انتخابات 2010 و2014، ويتحول إلى سبع كتل مختلفة، وهو ما يؤدي لصعوبة في قضية التحالفات، خصوصاً بالنسبة إلى قائمتي الصدر والعبادي، ما يجعل جميع التوقعات مفتوحة أمام الشكل النهائي لصورة التحالفات بسبب عدم وجود "فائز ملك" بينهم وبسبب نتائج كل الكتل التي تكاد تكون متقاربة ومتوسطة الأرقام. كما أن التحالف الصدري مع المدنيين، الذين يرجع لهم الفضل هذه الانتخابات في تحقيق الصدر المركز الأول، جاء بشروط مسبقة، هي أن الشطر المدني سينفصل بتحالفه إذا ما اختار الصدر العودة إلى خانة الأحزاب الإسلامية المغلقة أو المتشددة.
وحول ذلك، قال الخبير في الشأن السياسي العراقي، لقاء مكي، إنه وبحسب النتائج الحالية فإن "الانتخابات هذا العام حققت شيئاً جديداً، لم يحصل من قبل، لا سيما من خلال خسارة عدد من الوجوه التي أدمنت الفوز ومعه الفساد". وأضاف، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه "لا يمكن في مثل حال العراق توقع تغييرات فورية في ظل خراب مستشرٍ، وفساد متراكم، وطبقة سياسية فاشلة أو فاسدة، لكن التجارب تنضج، وما جرى في هذه الانتخابات يؤكد أن الناس قادرون على تصحيح الأوضاع، أو على الأقل وضعها في هذا الطريق، ومثل هذا الأمر يجري ببطء، لكن المهم أن يستمر بثبات، ومن دون آليات عنيفة تعيدنا إلى المربع الأول. ويبقى أن إرادة التغيير حققت شيئا، وهو مؤشر مهم يتوجب البناء عليه والنظر إليه بإيجابية". واعتبر محافظ الموصل السابق، أثيل النجيفي، أنه "عندما تصبح قائمة النصر أولى في الموصل وتحل بالمرتبة الخامسة في بغداد فإنني أحترم هذا الخيار وأتعامل معه كواقع سياسي جديد في نينوى".
وتشير مصادر المفوضية العليا المستقلة للانتخابات إلى أن عدد المرشحين المحسوبين بشكل أو بآخر على الحزب الشيوعي العراقي حصدوا ما بين 12 و14 مقعداً داخل التحالفات المختلفة، والتي ذاب فيها، مثل "تمدن" و"سائرون" و"الوطنية" و"تحالف بغداد" و"الحزب المدني"، رغم أنه لم يدخل بعنوانه الرسمي في بعض تلك القوائم ودخل كأفراد فيها إلى جانب شخصيات ليبرالية عراقية، وهو ما يمكن القول إن الحزب الشيوعي العراقي هو الحصان الأسود في هذه الانتخابات. ونقلت وسائل إعلام عراقية عن المتحدث باسم تحالف "سائرون"، قحطان الجبوري، قوله إن "تقدم سائرون في الانتخابات جاء بفضل التيار المدني". وقال مسؤول عراقي بارز في بغداد، لـ"العربي الجديد"، إن المفاوضات انطلقت فعلاً بين الكتل السياسية منذ ليلة الأحد الماضي، عندما تم الإعلان عن النتائج الأولية في بغداد، مبيناً أن النتائج الحالية، التي فككت اللوائح الكبيرة الرئيسية في العملية السياسية، وحولتها إلى كتل متوسطة وصغيرة، يزيد من تعقيد المشهد ولا يتيح فرض سياسة الأمر الواقع. وتابع "قبول الصدر التحالف مع العبادي يجب أن يسبقه اتفاق على منصب رئاسة الوزراء، والصدريون يطرحون أنفسهم بقوة لهذا المنصب، لذا يمكن القول إن تشكيل الحكومة قد يطول أبعد من التوقع الحالي أنها ستكون في يوليو/تموز المقبل"، معتبراً أن "الولايات المتحدة سيكون لها تأثير أكبر من إيران في هذه الحكومة، كونها تملك قرار الكتل الكردية والسنية، ولها تأثير على كتلة النصر التي يتزعمها العبادي".