الاقتصاد المصري والأمن القومي المهدّد

17 يوليو 2018
الأمن القومي مهدد مباشرة بانخفاض مستوى المعيشة (فرانس برس)
+ الخط -
تحت شعار الحفاظ على الأمن القومي، اتخذ الرئيس الأميركي دونالد ترامب العديد من القرارات خلال فترة الثمانية عشر شهراً الماضية، تمحور جزء كبير منها حول الاقتصاد والتجارة الدولية، وكان هدفها المعلن هو وضع مصلحة الولايات المتحدة أولاً، بالإضافة إلى جعلها دولة عظيمة من جديد.

ومع وصوله إلى البيت الأبيض، أدرك ترامب أن الولايات المتحدة تعاني من عجز في ميزانها التجاري للبضائع، وصل العام الماضي إلى ما يقرب من 800 مليار دولار، ولم ينجح ميزان الخدمات، كالبنوك وشركات الاتصالات والسياحة، في تقليص هذا العجز إلا بحوالي 200 مليار دولار، ليتوقف العجز في البضائع والخدمات عند مستوى يقل قليلاً عن 600 مليار دولار.

لم ينتظر ترامب طويلاً، فأعلن على الفور نيته تقليص ذلك العجز وربما القضاء عليه تماماً، ثم دخل في مفاوضات مع شركائه التجاريين، ولما وجد منهم تزمتاً وإصراراً على عدم التدخل في آليات التجارة الحرة، التي أرست مبادئها الولايات المتحدة نفسها، قرر ترامب أن يمضي قدماً في طريق تحقيق أهدافه، دون الاعتماد على الآخرين.

وإذا راجعنا القرارات التي صدرت خلال الفترة الماضية، فسنجد أن ترامب سحب توقيع الولايات المتحدة من اتفاقية الشراكة مع دول المحيط الهادئ، فلم يتم العمل بها، وفرض تعريفات جمركية على واردات بلاده من الصلب والألمنيوم، ثم أجل العمل بأغلبها وبدأ التفاوض بشأنها مع الدول المعنية، وطالب المكسيك وكندا، شريكاه في اتفاقية التجارة الحرة لدول أميركا الشمالية والمعروفة اختصاراً بنافتا، بإعادة التفاوض من أجل تعديل شروط تلك الاتفاقية.
كما بدأ ترامب عند منتصف ليل الجمعة الماضية تطبيق تعريفات جمركية على ما قيمته 34 مليار دولار من واردات بلاده من الصين، على أن يضيف إليها منتجات أخرى، تقدر قيمتها بحوالي 16 مليار دولار، خلال أسابيع معدودة، وفرض قيوداً صارمة على الاستثمارات الصينية في قطاع التكنولوجيا داخل الولايات المتحدة من أجل منع استيلاء الصين على التكنولوجيا الأميركية المتقدمة.

ومؤخراً، بارك ترامب انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، وأعلن نيته الدخول مع المملكة المتحدة، التي يتوقع أن يكون مركزها التفاوضي ضعيفاً جداً بعد الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، في اتفاقيات تجارية ستكون على الأغلب في خدمة المصالح التجارية الأميركية بالأساس.

وعلى الجانب الآخر، مازال الميزان التجاري المصري، بشقيه السلعي والخدمي، يعاني عجزاً سنوياً، قدره موقع فوكاس إيكونوميكس https://www.focus-economics.com/countries/egypt بأكثر من 30 مليار دولار في عام 2017.

وعلى الرغم من كل الجهود المبذولة التي تستهدف الإصلاح الاقتصادي في مصر، بدعم خططي من صندوق النقد الدولي، ومادي من السعودية والإمارات، لم يحاول أحد إيقاف النزيف الذي يسببه عجز الميزان التجاري للعملة الأجنبية المتوفرة في مصر، ولم نسمع بقرارات تستهدف الحد من الاستيراد المصري العشوائي، إلا فيما ندر.

واقتصرت الإجراءات المتخذة على مكافأة المصدرين بمنحهم ما يطلق عليه "دعم الصادرات"، بينما في الناحية الأخرى، اكتفى المشرع بزيادات بسيطة في التعريفات الجمركية المفروضة على بعض المنتجات التي لا تمثل نسبة تذكر من الواردات المصرية، ليستمر وحش الواردات (السلعية والخدمية) في التغول، وليتلاشى أي أمل في تحسين وضع الميزان التجاري المصري.
في المقابل، كان النجاح الوحيد الذي حققته الحكومة المصرية في هذا الشأن هو تأجيل سداد بعض الودائع التي حصلنا عليها من الدول الخليجية، مع مزيد من الاقتراض منهم، ومن جهات أخرى.

ومازلنا حتى كتابة هذه السطور نتلقي البشارات التي تعلن حصولنا على المزيد من القروض من البنك الدولي تحت مسميات مختلفة، رغم وصول الدين الخارجي، كرقم وكنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ مصر القديم والحديث، بما يهدد فعلاً الأمن القومي المصري وحياة الأجيال القادمة.

عندما قامت الثورة في يناير / كانون الثاني من عام 2011، وهربت الاستثمارات الأجنبية إلى خارج البلاد، وأخرج العديد من رجال الأعمال أموالهم من مصر، عاني الميزان التجاري المصري وميزان المدفوعات أيما معاناة، واقتربت احتياطيات النقد الأجنبي من المستويات الحرجة.

ولما طالب البعض بإيقاف الاستيراد، أو قصره على البضائع الحيوية التي لا يمكن الاستغناء عنها، والتي لا يوجد لها بديل مصري، أو حتى زيادة التعريفات الجمركية على البضائع غير الضرورية بصورة تحد من استنزافها لموارد النقد الأجنبي المحدودة لدينا، تعالت الهتافات بأننا لا نستطيع فعل ذلك، بحكم توقيعنا على اتفاقات تحرير التجارة والخدمات وغيرها.

واليومَ نرى بأعيننا الدول التي أرست قواعد التجارة، وأنشأت المنظمات التي تدعم تحريرها، تعيد التفاوض مع الشركاء التجاريين، وتتنصل من الاتفاقات، وتفرض التعريفات الجمركية الضخمة. أفلا نكون منصفين لأنفسنا وننتهز الفرصة لوضع القيود وفرض التعريفات لحماية أمننا القومي؟ أم أن الأمر حلال لهم وحرام علينا؟
تسمح منظمة التجارية العالمية للدول التي تعاني ظروفاً استثنائية، كالحروب والثورات والأزمات الاقتصادية الكبيرة، بالتدخل في العملية التجارية وفرض القيود إنقاذاً لمصالحها، ولو بصورة مؤقتة. تسمح لهم بذلك حماية لأمنهم القومي، ولا أعتقد أن شيئاً يمس الأمن القومي لأي بلد أكثر من استنزاف موارده من العملة الأجنبية، بصورة تضغط على عملته المحلية لتنخفض قيمتها ويقل مستوى معيشة أغلب مواطنيه.

الأمن القومي المصري مهدد تهديداً مباشراً بانخفاض مستوى معيشة المصريين، ودخول نسبة كبيرة منهم تحت خط الفقر، واختفاء الطبقة الوسطى.

والأمن القومي المصري مهدد أيضاً بارتفاع حجم ونسبة الدين الخارجي من الناتج المحلي، مع استمرار لجوء الحكومة للاقتراض الخارجي لحل أزمة عجز الميزان التجاري.

ولا بديل والحال كذلك إلا بالتدخل الحكومي لفرض قيود على الاستيراد، وسن القوانين الحمائية التي تحمي مصالحنا، ولن تجرؤ أي جهة في الوقت الحالي على لومنا إذا فعلنا ذلك.
المساهمون