الأردن.. أزمة مركّبة تمدّ الحراك قوة

الأردن.. أزمة مركّبة تمدّ الحراك قوة

28 ديسمبر 2018

(هاني حوراني)

+ الخط -
يمضي المشهد الأردني إلى مزيد من التعقيد، حراك شعبي تتفاوت حدّته، وبسقوف متباينة، وحكومة تحاول أن تتلمس طريقها في إحداث تغيير إيجابي، بالاستناد إلى صفات رئيسها، وسمعته، ومشروع الأولويات الوطني، وركود اقتصادي، مع تراجع موارد البلاد، وارتفاع الديون على الأفراد والدولة معاً، فيتدخل الملك، في حالات تواصل شعبية، وهو الذي يسمع كل ما يجري، وينقل إليه الحديث الشعبي، ونقد النخب، فيلتقي كتابا صحافيين، ويطرح أمامهم تحديات البلد، مؤكداً أنه ليس في حالة مللٍ، وأنه يرى في الأردن "فرصا ثمينة في المستقبل".
ملفات معقّدة، في مقدمها وضع الإقليم، ومزاحمة الأردن في أدواره، وخصوصا في القضية الفلسطينية، وتحدّيات ملفات الوضع السوري والعلاقات مع العراق. وفجأة يرتفع التنسيق مع تركيا التي ترسل أكبر المطلوبين في قضية فساد الدخان، عوني مطيع، فيما يزور وزير الصناعة والتجارة، طارق الحموري، الدوحة. ويتزايد الحديث عن تأسيس خط بحري بين قطر والأردن، تلك مقدمات ليست حاسمة في تغيير خيارات الأردن الخارجية، لكنها مقدمات لحالٍ ربما يكون جديداً في التعاون بين البلدين، مع بقاء انسداد الآفاق نحو عودة السفيرين، القطري والأردني إلى عمّان والدوحة، كي لا يُغضب الأردن الأطراف الأخرى في الخليج، والدوحة في رشدها وعقلها وحكمتها تقدّر ظروف الأردن الداخلية، وسلّم علاقاته.

وفي ظلّ انكشاف المنطقة، بعد الانسحاب الأميركي من سورية، وإطلاق اليدين الروسية والتركية فيها، فإن الرسائل الإيجابية جاءت من سورية إلى الأردن، على لسان القائم بالأعمال السوري في عمّان، أيمن علوش، وبيد رئيس مجلس النواب الأسبق عبد الكريم الدغمي الذي زار دمشق، ونقل رسالة من الرئيس بشار الأسد إلى العاهل الأردني، عبدالله الثاني، مفادها "أن سورية لا تنظر إلى الوراء"، فالأسد في أفضل أحواله، والأردن معني بعودة العلاقات لإنقاذ اقتصاده، وليس لأولوية عودة اللاجئين السوريين الذين لم يتجاوز عدد العائدين منهم 50 ألفاً منذ فتح الحدود.
لاحقاً، يُقرر الأردن منح أبناء غزة حق التملّك، في خطوةٍ تمّت قراءتها جزءا من سياسة عميقة، غلافها المصالح والدعم في الحقوق المدنية، وتخفيف المتاعب على أبناء القطاع، لكنّ في مضمونها العميق جانبا كبيرا من الاقتصاد، لتحريك سوق العقار الراكد.
ويزور الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، عمّان، ويحضر مع الملك عبدالله الثاني احتفالات الطوائف المسيحية. وفي الزيارة إبلاغ أردني، وعتبٌ على غياب التنسيق في الآونة الأخيرة، ولا ضغوط على الرجل الذي يُقدّر الأردن حالته، ومشهده المنقسم داخلياً والمعقد، لكنّ الطرفين متفقان على أن الأردن ليس شريكاً وحسب، بل هو المتأثر الأكبر بأي قراراتٍ إسرائيليةٍ أحادية ضد الفلسطينيين.
لا يقطع الأردن علاقاته مع أشقائه، يحاول الحكم الإبقاء على شعرة الحكمة، في زمن مليء بالعواصف، لكن أعتى عواصف الراهن هي ظروف البلاد الداخلية، وانخفاض قدرة الناس على الشراء، وارتفاع مستوى المعيشة ومعدل الفقر، وانعدام التنسيق بين المؤسسات، في أزمة عبر عنها المجلس الاقتصادي والاجتماعي في تقريره "حالة البلاد"، والذي أعلن أن مصير البلد في خطر، وأن الدولة تشهد أزمة مركبة ومتداخلة وعميقة. وقد أعدّ التقرير بمنهجيةٍ علميّةٍ، ووصفه رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي، مصطفى حمارنة، بأنه "فرصة" شخّصت الوضع العام، ونطق بكلام صريح إن البلاد في جملة أزماتٍ، منها: أزمة ثقة وأزمة إدارة عامة وأزمة خطط ووزارات وأزمة تعليم. وهو تقريرٌ جامعٌ وراصدٌ كل أوجه الخلل، قد لا يعجب بعضهم، لكنه يؤكد قدرة المجلس على توفير معلومات دقيقة محايدة، من دون أن يُجمّل الحكومة التي يقال إن رئيس المجلس الاقتصادي الاجتماعي قريب منها ومن صنّاعها، وهو أمر ينفيه حمارنة بشدّة.
وأظهر تقرير "حالة البلاد" الصادر عن مؤسسةٍ مستقلةٍ أنّ هناك تراجعا وضعفا واضحا في أداء مؤسسات الدولة، تتراكم آثارهما سنة بعد سنة، وأن الدولة شهدت خلال الـ18 سنة الماضية تعاقب 443 وزيراً تكرّر منهم 166 وزيراً، وأن المشكلة الأساسية التي واجهت الحكومات المتعاقبة تكمن في عجزها المتكرّر والمتراكم عن تحقيق أهدافها المعلنة، وأن البلاد تشهد اتساع فجوة الثقة بين المواطنين والحكومات، وأن غالبية الاستراتيجيات والأهداف المعلنة لم تقترن بخطط تنفيذية، ولم ترتبط بجداول زمنية لتطبيقها. ويضاف إلى ذلك ضعف الموارد البشرية لتنفيذ الخطط، وعدم وجود قواعد بيانات رصينة، للاعتماد عليها. وهذا الحال حوّل معظم الاستراتيجيات إلى حبرٍ على ورق، وجعلها حبيسة الأدراج.
سيكون لإعلان هذا التقرير نتائج مثيرة بالنسبة لقوى الحراك الشعبي، كما حصل مع تقرير ديوان المحاسبة؛ فالرسميّون اعتادوا أن يلقوا اللوم على المواطن، وعلى نمط عيشه، واستهلاكه التفاخري، وقليلاً ما يعترفون بالخطأ والمسؤولية، ليأتي تقرير "حالة البلاد"، ويؤكد أن صوت الحراك الرافض للتهميش وغياب الخطط، والمندّد بالفساد وحالة التراجع العام، على حق بيّن، وأن أزمة البلاد من صنع نخبها، أياً كانت مرجعيتها الفكرية.
فيجتمع صوت الحراك مع صوت الخبراء في وجه حكومةٍ تريد من الجميع منحها الفرصة، لتحقيق مشروعها الذي أعلنت عنه، لكن الحكومة نفسها تعاني أيضاً من ضعف في بنيتها، وتسعى حثيثا لملاحقة الإشاعات والتنديد بمطلقيها، والمواجهة مفتوحة بين منصة حكومية وملايين الصفحات الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي، ليأتي البديل بتخفيف حدّة الاحتقان الشعبي، وامتصاص الغضب، لكي تحاول الحكومة اكتساب قليل من القوة، وتفريغ الشارع من قوته، فسمحت، في الأيام الماضية، بتكفيل بعض معتقلي الحراك، والبدء بإجراءات العفو العام، والسماح للبنوك بجدولة قروض المواطنين المثقلين بالديون.
خارجياً، يمضي رئيس الحكومة، عمر الرزاز، إلى فتح آفاق اقتصادية بزيارتين إلى العراق وتركيا، حيث التعويل على السوق العراقي والمشاريع الاستراتيجية، ومحاولة إعادة الحوار مع الأتراك بشأن اتفاقية التجارة الحرة التي ألغاها الأردن أخيرا لعدم عدالتها، وهو ما انعكس سلباً على الأسواق.
ويستمر الملك في محاولة دعم الحكومة التي تتهيأ للإعلان عن تعديلها الثاني، ويقال إن أسماء ثقيلة من أهل الخبرة رفضت الدخول فيه؛ لأنها تتوقع أن البلاد تسير إلى الأسوأ، وهو أمر حذّرت منه مجموعة من النخبة السياسية المحافظة أخيرا في جمعية الشؤون الدولية، والذين عقدوا اجتماعاً لما يقارب مائة شخصية من رؤساء حكومات وقادة جيش وأجهزة أمنية ومتقاعدين ووزراء ونخب مسيسة، قرّروا جميعاً أن حالة البلاد غير "مريحة ومقلقة"، وفي الهاجس الذهني أنهم يحمون البلاد.
ما الحل؟ في المدى المنظور، لا يمكن حدوث فرق كبير في الأردن. ثمّة صراع مُعلن بين معسكرين: المحافظون الذين يريدون تحويل النظر عن الحراك إليهم وإلى خطابهم المُحذّر من ضياع البلد، وهم حريصون على وطنهم، فهم يدركون أن الحراك لا يمكن أن ينتج حالة سياسية تغييرية، إذا بقي في الميادين والساحات، ولا بدّ له من حالة تسييس ومطالب واضحة. وهناك الطرف المستـأثر بالدولة اليوم من وجهة نظر المحافظين، وهو التيار المدني الليبرالي، والذي يعتبر رئيس الحكومة من المقرّبين له، وقد رخصت الحكومة أخيرا حزب التيار المدني، بعد أن رُفض سابقاً ترخيصه خمس مرات.

في كلا المعسكرين المدافعين عن الدولة، الحراكِ والمحافظين، هناك ما يُعتقد أنها حرب استعادة للدولة وإنقاذ ورفع للبطاقات الحمراء. ومن ناحية التحليل السوسيوتاريخي، لا تحفل التجربة الأردنية بانتصار معلن لأي طرف، من دون تدخل الحكم بالميل المبرمج لأحد الأطراف، من دون إعلان نصر لأحد. وفي بلد حيث تغيب الأحزاب، ويتشكل المجتمع بولاءات تقليدية بحتة، ويلتقي الناس فيه عبر هوياتٍ متعدّدة، فإن الفعل الجماعي بالمعنى الفيبري (نسبة لماكس فيبر) لا يحمل مقدماتٍ تمدّنا بتوقع المصير لسلوك الجماعة المنظمة في الأردن، والتي هي مفقودة، نتيجة اختلاف مصدر السلوك الجمعي، وفقدان الثقة بين النخب السياسية والمواطن البسيط.
في البحث عن سؤال المصائر، لا يمكن توقع مرور الحكومة بحالةٍ مريحةٍ مع الحراك، ومع القوى السياسية المعارضة لها، والنخب المتحفزة للتغيير، فالصراع في ازدياد بين الجميع، والظروف تتعقد في ظل انسداد الوضع المالي، وعدم وجود أحزاب فاعلة، وغياب دور جماعة الإخوان المسلمين في الفعل الاحتجاجي أخيرا، وعدم التعويل كثيراً على البرلمان قوة ضاغطة.
وإذا ما حاولنا إنزال التحليل العلمي على راهن الفعل الاجتماعي الاحتجاجي، ودوره في استيعاب مقولة الصراع، باعتباره موقفاً تفاعلياً يتطلب اتخاذ قرار رشيد في مقابل فِعله، فإن المُعلن عن تراكم الفشل في السياسات بين النخب والمجلس الاقتصادي أخيرا، والحراك الغاضب، سوف يمهد لمحاولة التعامل مع الوضع، باعتبار أن البلاد في أزمةٍ، قد تؤدي إلى انفجار اجتماعي كبير، قبيل مئوية الدولة.
F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.