أغلبيتنا الصامتة

30 نوفمبر 2014
+ الخط -

لفت انتباهي قبل أيام، إجراء رقابي ذو خلفية سياسية محضة، أقدم عليه الأمن العام في لبنان في منعه فيلم وثائقي كان مقرراً عرضه في مهرجان "الثقافة تقاوم"، عنوانه "الأغلبية الصامتة تتحدث"، للمخرجة المتألقة، باني خوشنودي، ويتضمن مشاهد التقطت في إيران سنة 2009 على أيدي هواة، أو بواسطة آلات تصوير بسيطة، وهذه المشاهد لتظاهرات عديدة حاشدة، خرجت بانتظام لأشهر طويلة، تندد بـ"تزوير"، وأتت بأحمدي نجاد، رئيساً لولاية ثانية، وأسقط خلالها منافسه الإصلاحي، مير حسين موسوي، وجوبهت التظاهرات بالقمع من السلطات، وتخللتها عشرات التوقيفات، وعمليات إطلاق نار وسقوط قتلى.
هذا العنوان المثير للفيلم الوثائقي، والذي خلف منعه من العرض ضمن فعاليات المهرجان المذكور، تفاعلاص كبيراً من وسائل الإعلام الدولية، ما جعل قراء ومتتبعين عديدين للشأن الدولي يطلعون على مضمونه النقدي للسلطة الإيرانية المحافظة، إلا أن ما أثارني أكثر هو العنوان الفريد للفيلم الوثائقي "الأغلبية الصامتة تتحدث"، فمفهوم الأغلبية الصامتة أصبح متداولاً كثيراً في الأوساط السياسية في الآونة الأخيرة، إذ أن الرئيس الأميركي، ريتشارد نيكسون، أول من استعمل هذا المفهوم في الحرب الأميركية على فيتنام. حينها أكد أن الأغلبية الصامتة كلها تؤيد حربه على فيتنام، إلا أنها سرعان ما نفت، وبشكل عملي، ادعاءات نيكسون، حينما خرجت مظاهرات بالآلاف، تدعوه إلى التخلي عن الحرب، حينما بدأت تصل الطائرات الأميركية محملة، يوميّاً، برفات الجنود الأمريكيين، هذا ما يجعلنا أمام مفهوم زئبقي، إن صح التعبير، فالصمت قد لا يعني الرضا والقبول في جميع الأحيان.
عموماً يمكن القول، إن لكل مجتمع معين أغلبيته الصامتة، وهو ما ينطبق على مجتمعاتنا العربية التي ترزح تحت مختلف صنوف أشكال التهميش والإقصاء وغياب تام لأنظمة الديمقراطية، ثم عجز هيئات المجتمع المدني عن القيام بالأدوار، التي من المفترض أن تنظم هذه الأغلبية، بحيث تصبح مؤثرة، كما هو الشأن بالنسبة للمجتمعات المتقدمة.
هكذا، وبعد أن حاولنا إعطاء لمحة موجزة عن مفهوم الأغلبية الصامتة، على ضوء ما حصل في مهرجان "الثقافة تقاوم"، سوف نحاول أن نعرج على حالة الاستقطاب السياسي أو الاستثمار السياسي لهذه الأغلبية في الصراع السياسي الإقليمي الذي تشهده الصحراء الغربية، وهو ما أشار إليه كريستوفر روس، الممثل الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة في الصحراء الغربية، في تقريره السنوي لسنة 2013، بحيث ذكر في تشخيصه الوضع السياسي الذي تشهده المنطقة، بأن أقليتين صادفتهما في زيارتي المنطقة، الأولى موالية للطرح المغربي، والثانية تدعو إلى تطبيق مبدأ تقرير المصير، وهي بذلك متماهية مع موقف الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء وواد الدهب، ثم أغلبية صامتة.
هذا التشخيص الواقعي عصارة مجموعة من اللقاءات والزيارات المكوكية التي قام بها  كريستوفر روس للمنطقة ولمخيمات اللاجئين الصحراويين في الجزائر، بالإضافة إلى دول ذات صلة بقضية الصحراء الغربية في المرحلة التي توج بها تقريره السنوي، يجعلنا بصدد محاولة للوقوف على أغلبيتنا الصامتة، ورصد أسباب هذا الصمت، وتأثيراته السياسية، فلا شك أن طول أمد الصراع نتج عنه بروز طبقة أوليغارشية محلية، مستفيدة من هذا الوضع القائم، والتي تعمل، بكل الوسائل الخفية أكثر من العلنية، عن عدم إحراز أي تقدم سياسي في القضية، حفاظاً على امتيازاتها، والموجودة على طرفي الصراع، فسمتها الصمت تلعب على النقيضين، فلا هي مع الطرح المغربي، ولا هي مع مبدأ حق تقرير المصير، حتى إن بدت، في بعض المناسبات، من أشد المدافعين عن أحد الموقفين، إلا أن ذلك لا يعدو كونه إثباتاً للوجود أمام الرأي العام، أو حينما ترى أن من الضروري احتواء خصوم مفترضين على الساحة السياسية، عندما يعجز من أوكلت لهم مثل هذه المهمات، كانت لأغلب عناصرها تجارب سابقة على مختلف المستويات السياسية والعسكرية من كلا الجانبين، فهذه الطبقة الأوليغارشية صامتة، لكنها تمارس نوعاً من السياسة غير المعلنة، أو تمارس السياسة بالوكالة، وهي معدودة بأصابع اليد، لكن تأثيرها لا محدود.
من جهة ثانية، الأغلبية الساحقة من "أغلبيتنا الصامتة" هي من السواد الأعظم الذي لا يملك أدنى تأثير في ظل الأوضاع الراهنة التي تعاني منها المنطقة، والتي تظل مجرد كتلة جامدة، هي مادة للتجارب السياسية، وهنا، يجب الوقوف على خطاب العاهل المغربي، محمد السادس، اخيراً، وجاء فيه: "فهؤلاء الانتهازيون قلة ليس لهم أي مكان بين المغاربة، ولن يؤثروا على تشبث الصحراويين بوطنهم. لذا، وإنصافاً لكل أبناء الصحراء، وللأغلبية الصامتة التي تؤمن بوحدة الوطن، دعونا إلى إعادة النظر جذريّاً في نمط الحكامة بأقاليمنا الجنوبية"، هنا ضمنيّاً أدرجت هذه الأغلبية من المؤمنين بوحدة الوطن، والتي من المقرر أن يتم إنصافها بتغيير جذري في نمط الحكامة الذي كان سائداً، وهو بمثابة اعتراف صريح بالخلل على مستوى الحكم الرشيد المنتهج من الدولة في المنطقة. وهنا، الفئات المستهدفة أكثر وضوحاً من غيرها، وهي فئة المهمشين والمقصيين التي تعاني من الحيف والإقصاء الاجتماعي، ما يبرر كونها صامتة، وذلك نتاج عدم درايتها بأساليب انتزاع حقوقها واقتصارها على احتجاجات عفوية يكون مآلها الفشل، من دون أن تستطيع تحقيق ولو جزء بسيط من متطلباتها الاجتماعية. وبالتالي، صمتها هو ترجمة لوضعها الاجتماعي المتردي وانعدام فئة قادرة على بلورة مطالبها في تنظيمات اجتماعية قوية قادرة على الاستمرارية، وهو الشيء الذي، بالطبع، يستغله النظام للحفاظ على صمت هذه الأغلبية، والتي يجب كذلك ألا تصل إلى مرحلة اليأس، فتلبية بعض مطالبها المستعجلة ضرورة استراتيجية، فالإبقاء دوماً على بصيص الأمل لدى المتشائمين يجنب من حصول هزات اجتماعية عنيفة، كما حصل سنة 2010، في مخيم اكديم ازيك الاحتجاجي الذي انطلق من أرضية مطالب اجتماعية واضحة، تتلخص في الحق في الشغل والسكن اللائق للمعوزين، والذي لم تتفاعل الدولة مع مطالبه بشكل إيجابي في حينه، ما نجم عنه أزمة توالت نتائجها السياسية الوخيمة على الدولة المغربية، ما يشكل خروج الأغلبية الصامتة عن صمتها في شكل هزات سياسية- اجتماعية عنيفة، ما ساهم عقب ذلك في اتساع المد الجماهيري للمطالبين بتحقيق الشرعية الدولية، والممثلة في حق تقرير المصير بزج مواطنين صحراويين كثيرين في غياهب السجون المغربية ومتابعتهم أمام القضاء العسكري.
مجمل القول، إن الأوضاع القائمة في الوقت الراهن، الذي يتسم بمزيد من الهجوم على مكتسبات الجماهير الشعبية، وتعريضها للقمع الوحشي وحرمانها من مزاولة حقها في الاحتجاج، ثم مصادرة جل المكتسبات الاجتماعية، ونهج سياسة الكذب والتضليل، إعمالا بسياسة "اتركهم يصرخون، وافعل ما هو مقرر"، ليجعل من الكتلة الجامدة، إن توافرت لها مجموعة من الشروط، أهمها أداة تنظيمية قادرة على استيعاب هذا الكم الكبير من الإشكالات الاجتماعية والاقتصادية. وبالتالي، ستكون الكلمة الفيصل للأغلبية الصامتة، بحكم أنها تضم بين صفوفها جيشاً احتياطيّأً قادراً على قلب الموازين، فمتى سوف تتكلم أغلبيتنا الصامتة؟

avata
avata
لحويمد المحجوب (المغرب)
لحويمد المحجوب (المغرب)