أحرار الشام... سقطات "فلسفة النشأة وتعديل المسار"

أحرار الشام... سقطات "فلسفة النشأة وتعديل المسار"

08 مارس 2016
(Getty)
+ الخط -
يأتي فيلم "أحرار الشام فلسفة النشأة وتعديل المسار"، الذي عرضته قناة "الجزيرة" الخميس الفائت، في وقت دقيق جداً بالنسبة للحركات الإسلامية المقاتلة في سورية، من حيث التصنيف الدولي للحركات الإرهابية، والتصنيف الروسي لـ "الأحرار" كتنظيم "إرهابي".

حاول الفيلم من خلال المعالجة الفنية والفكرية للمادة البصرية أن يبدو موضوعياً، إلا أنه ابتعد عنها بشكل واضح في كثير من المواضع، فعلى المستوى الفني اقتصر عرض الأفكار على أعضاء الحركة في الغالب، وبخاصة في الحديث عن نشأة الحركة ومرجعيتها الفكرية، والأخطر تقديم أخطائها في سياق المراجعة والاعتراف على ألسنة قياداتها دون فسح المجال أمام صوت آخر للحديث عن تلك الأخطاء. في حين أعطى الفيلم مساحة ضيقة جداً تكاد لا تذكر لبرهان غليون كشخصية علمانية مشهورة في إطار الحديث عن سبب إطلاق النظام للمعتقلين الإسلاميين في بداية الحراك السوري 2011، وذات المساحة لباحثين سوريين لتوثيق بعض الأحداث وليس نقدها، ولعل ذلك كون الظهور الأخير لقيادات الحركة الذين قضوا جميعاً بتفجير رام حمدان سبتمبر 2014 في الفيلم، يُعد قيمة تسويقية تمت الإشارة لها غير مرة في الفيلم.

فسلفة النشأة
بدأ الفيلم باستعراض السيرة الذاتية لقادة الحركة كمقدمة للدخول إلى نشأة الحركة ذاتها، فتم تقديم حسان عبود قائد الحركة وعبد الناصر ياسين قائد جناح العسكري على أنهما ينتميان إلى عائلات إسلامية وبالتحديد إخوانية ضيق عليها كثيراً نظام الأسد بسبب هذا الانتماء. تلك المقدمة قد تفهم باتجاهين إما بالتعاطف مع التاريخ النضالي لهذين الشابين أو أنهما طالبا ثأر خصوصاً مع تشكيلهما حركة مسلحة، وهي رواية روجها إعلام النظام السوري ومنذ بدء الثورة.

كما صور الفيلم الشابين على أنهما ريفيان بسيطان وبالتحديد ركز ضمناً على مرحلة النزول إلى المدينة وصدمة الحداثة عند دخولهما للجامعة، وهنا أثبت الفيلم تهمة رائجة في أوساط المثقفين السوريين عن أحرار الشام بأنهم "سلفية ريفية" تحديداً تتسم بالتشدد والسذاجة وتوجد أبحاث منشورة تتناول الأحرار من هذه النقطة.

إحدى المفارقات الملفتة في الفيلم كانت تناول سيرة "مُنظر" الحركة محمد الشامي (أبو يزن)، المتفوق دراسياً، والذي فضل دراسة الشريعة على دراسة الطب أو الهندسة، حيث عرض الفيلم شهادة تخرج أبو يزن من كلية الشريعة، والتي وإن بينت تفوقه من خلال معدل التخرج الذي يزيد بأجزاء من الدرجة عن 75% وهو معدل مرتفع في الجامعات السورية، إلا أنها بينت أيضاً تاريخ ميلاده عام 1986 ما يعني أنه مع اندلاع الثورة في 2011 كان يبلغ من العمر 25 عاماً فقط. والمفارقة ليست في كونه حديث السن والتجربة ولا يمتلك العلم الكافي لمنصب منظر حركة، وإنما في كون الفكر الذي من المفترض أنه يحاربه، وهو "فكر البعث" احتاج مناظره ميشيل عفلق إلى ما يزيد عن سنوات عمر أبو يزن تفرغاً وبحثاً حتى استطاع بلورته ووضع منطلقاته النظرية. عرض تلك النقطة موسعاً أياً كان هدفه في الفيلم لم يكن في صالح "أحرار الشام" بل أوحى بأنها ضعيفة نظرياً وسياسياً لا بل مرتبكة، وهو ما تم تأكيده في المراجعات التي قامت بها والتي تناولها الفيلم لاحقاً.

أخطر النقاط التي أغفلها الفيلم، هي عدم ورود اسم أبو خالد السوري نهائياً في الفيلم بل اكتفى الفيلم بعرض صورة خاطفة له وهو يربت على رأس حسان عبود. فكيف يمكن الحديث عن نشأة الأحرار دون ذكر رجل بحجم أبو خالد السوري والذي يعد الأب الروحي للحركة وقائدها في حلب، وهو من كان أيضاً رفيقاً لقياداتها الشابة في سجن صيدنايا؟ لكنّ نظرة إلى تاريخ الرجل قد تفسر إغفال ذكره في هذه المرحلة الدقيقة التي تحاول الحركة فيها نفي تهمة الإرهاب عنها، فأبو خالد هو "المجاهد" في أفغانستان، الشيشان، البوسنة، العراق، المقرب من عبد الله عزام وأسامة بن لادن وذراع أبو مصعب السوري اليمنى، والمكلف من أيمن الظواهري شخصياً بالتوسط في صراع "أخوة المنهج" بين جبهة النصرة وتنظيم الدولة في سورية وهي آخر مهماته، حيث تم اغتياله في حلب فبراير 2014.


ومن بين التناقضات الفكرية التي وردت في سياق نشأة الحركة، تركيز قائدها حسان عبود على أن الحركة لا تنتمي للقاعدة ولا الإخوان المسلمين أو حزب التحرير الإسلامي، في حين وردت عبارات على ألسنة قيادات الحركة في سياق حديثهم توحي بغير ذلك من قبيل "الجهاد سبيلنا" وهي أحد ثوابت جماعة الإخوان المسلمين. بالإضافة إلى عبارة "الإسلام دين ودولة" وهي أشهر عبارات حسن البنا "الإسلام دين ودولة مصحف وسيف"، وحديث قائد الجناح العسكري للحركة عبد الناصر ياسين عن أن أكثر كتابين أثرا فيه وبفكر الحركة هما الظلال ومعالم على الطريق، وعلى غير عادة الوثائقيات لم يتطرق الفيلم لهذين الكتابين أو مؤلفهما سيد قطب، رغم أن السياق كان يتحدث عن النشأة الفكرية لقيادات الحركة، تلك التناقضات تدل على وجود عدة تيارات داخل حركة الأحرار، وهو أمر يعلمه جميع المتابعين للحركة، على الرغم من محاولة الفيلم إظهارها كحركة متجانسة فكرياً، عبر عدم الخوض في تلك التيارات.

اقرأ أيضاً: 10 فيديوهات من تظاهرات سورية: الشعب يستعيد الشوارع

تعديل المسار
وركز حسان عبود قائد الحركة وغيره من القيادات في الفيلم على أن مرحلة سجن صيدنايا كانت لمراجعة الأفكار، وتقييم التجارب الجهادية السابقة، وفرز التيارات الإسلامية المتعددة داخل السجن، وهو ما يثبت علمهم بأخطاء السلفية الجهادية وتجاربها الفاشلة في أفغانستان والعراق. أشار الفيلم إلى تلك المراجعات داخل سجن صيدنايا، لكنه لم يذكر في حديثه عن تمرد سجناء صيدنايا الشهير 2008 النتيجة التي توصل إليها السجناء الجهاديون بعد تلك المراجعات الفكرية، وهي إعلان إمارة إسلامية داخل السجن. كما أشار إلى أن خروج الإسلاميين من صيدنايا 2011 كان بعد ضم السجن إلى قانون السجون السورية، وليس بعفو رئاسي مقصود من النظام في إطار جملة إصلاحات أعلنتها بثينة شعبان قبل يوم واحد من الإفراج عن معتقلي سجن صيدنايا، وهذا ما ذكره متن الخبر الذي ورد عنوانه فقط في الفيلم عن موقع فرانس 24.

الصادم في الفيلم هو تقديم أخطاء الحركة في إطار الفضيلة الناتجة عن الاعتراف بالخطأ، وهو ما تم تركيزه في ختام الفيلم بعبارات من قبيل أن تجربة الحركة تثبت عدم وجود ثوابت فكرية وكل الافكار قابلة للتغير والتصويب، وكأن الكوارث التي ارتكبتها الحركة هي مجرد أخطاء فكرية.

من تلك الأخطاء الفكرية من وجهة نظر قيادات الحركة هو إصرارهم على تمييز أنفسهم عن باقي التشكيلات العسكرية للثورة وبخاصة الجيش الحر، الأمر الذي أدى إلى شرخ في العمل العسكري بحسب تعبير الفيلم. بكل بساطة شق الصف وفرض نوع من التنسيق العسكري البيني على أساس أيديولوجي وليس وطنيا، الأمر الذي جعل فصائل الجيش الحر تُقضم من قبل تنظيم الدولة وجبهة النصرة أمام أعين الأحرار وغيرها من الحركات السلفية الجهادية، ما ساهم بشكل مباشر في إضعاف المؤسسة العسكرية الوطنية وإنهائها، هو خطأ فكري.

كما أن الفشل في إدارة أول مدينة محررة (الرقة) أيضاً خطأ فكري ناتج ببساطة طبقاً لقيادات الحركة عن نقص الخبرة وخروج الكفاءات المحلية بإرادتها خارج البلاد، وليس استبدالهم مع جبهة النصرة المجالس المحلية المدنية المتخصصة بالهيئات الشرعية، الأمر الذي أدى إلى إفشال تجربة المجالس المحلية عموماً، ومن بعدها الحكومة المؤقتة بحسب تصريحات وزرائها.

الكارثة الحقيقية في الفيلم كانت الحديث عن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، والذي تتحمل حركة "أحرار الشام" و"جبهة النصرة" المسؤولية المباشرة في استحواذه على المنطقة الشرقية (دير الزور والرقة والحسكة) وأجزاء من ريفي حلب وإدلب باعتراف قياداتها. حيث أكد قائد الحركة في المنطقة الشرقية قدرة الحركة على كسر شوكة التنظيم ووقف تمدده، لكنهم التمسوا له العذر تلو الآخر تجنباً للخوض في دماء المسلمين، ومن ثمة عندما قتل التنظيم القيادي في الحركة أبو ريان ومثل بجثته وجب قتاله، ولكن مقاتلي الحركة ترددوا ومن ثم رمى بعضهم سلاحه، وذلك بحسب أحد قياديي الحركة كون "الإخوة" غير معتادين على قتال من يرفع راية لا إله إلا الله، وبسبب نقص في التكوين العقائدي لبعضهم بحسب قيادي آخر في الحركة، مما اضطر الأخيرة لاستصدار فتوى تعتبر تنظيم الدولة (داعش) خوارج كي يبرروا لمقاتليهم شرعية قتال "إخوة المنهج".

وإذا كان من الجيد أن تقوم حركة "أحرار الشام" بمراجعات فكرية، يبقى السؤال الأساسي: "ما هي نتائج تلك المراجعات؟ وهل ما تم تقديمه من اعتذارات للشعب السوري على صفحة "فيسبوك" لأبو يزن الشامي، أو التوقيع على ميثاق لا يحمل مشروع دولة إسلامية في سورية كافٍ لإعادة بناء الثقة مع المجتمع؟"


اقرأ أيضاً: "حقيقة حسن"... فيلم "سعودي" جديد عن نصرالله

المساهمون