"قناص أميركي": رسْم أسطورة بدماء الآخرين

"قناص أميركي": رسْم أسطورة بدماء الآخرين

08 فبراير 2015
المخرج كلينت إيستوود مع برادلي كوبر
+ الخط -

في فيلم كلينت إيستوود الأخير، "قناص أميركي"، يستمر الجندي/ القناص، بطل الفيلم، في قتل العراقيين، ظناً منه أنه يدافع عن زملائه من الجنود. يقتل كل من يشتبه به، لا يهمه إن كان ما يفعله حقاً أم باطلاً، لا فارق لديه إن كانت قضيته عادلة أم ظالمة.

ما يهم، بالنسبة إلى صانعي هذا الفيلم، أن نموذج الجندي الأميركي الأسطوري متحقق، والأهم أن الجمهور الأميركي، ومعه ملايين من عشّاق تلك النوعية من السينما حول العالم، يعجبهم نموذج الجندي الخارق الذي لا يقتله الرصاص، ولا يهاب التفجيرات، ويقاوم من يعتبرهم سكّان البيت الأبيض "إرهابيين".

لكن، ربما كانت هذه الفكرة الرائجة صالحة للتعميم في سبعينيات أو ثمانينيات القرن الماضي، وليس الآن في 2015. اليوم، بات لدى الأميركيين أنفسهم انتقادات لتلك النوعية من الأفكار السينمائية التي فرضتها حكوماتهم على العالم في وقت تدشين الإمبراطورية الأميركية، ولدى كثير منهم شكوك في تصرفات قواتهم التي تعمل خارج البلاد، وفي قتلهم للمدنيين والتنكيل بالأبرياء، وحصدهم أرواح آلاف الأطفال والنساء.

كان بالإمكان إقناع الكثيرين بهذا النموذج الذي يتخذه "قناص أميركي"قبل ثلاثين عاماً من الآن، قبل أن تُظهر الفضائيات ومواقع الإنترنت مئات الجرائم التي ارتكبتها القوات الأميركية في أفغانستان والعراق وغيرها من الدول التي قرّرت واشنطن التدخل العسكري فيها.

ويبدو أن مخرج الفيلم، كلينت إيستوود، ما يزال الزمن متوقفاً به هناك، قبل عقدين من نهاية القرن الماضي، أو ربما أنه ينوي تجديد نموذج الجندي الأميركي الذي لا يقهر، بعدما بات الحديث عن هذا النموذج ممجوجاً.

حقق الفيلم أرقاماً قياسية في دور العرض، وهذا أمر طبيعي بالنسبة إلى هذه النوعية من الأفلام التي تحظى بدعاية واسعة اعتماداً على موضوعها المثير، إضافة إلى قدرات شركات الإنتاج المتحكمة بجزء كبير من صناعة السينما العالمية، وكذلك اسم المخرج اللامع.

الجهد المبذول في تصوير الفيلم كبير، لكن الفكرة مشوشة وربما مضللة بشدة. إذ لو امتلك المشاهد قدراً يسيراً من الاطلاع على ما يجري في العراق منذ الغزو الأميركي حتى الآن، فإنه من السهل عليه كشف زيف الرسالة التي يقدّمها الفيلم.

أقحم المخرج بعض الأحداث في الفيلم لتبرير رسالته، إذ يظهر في أحد مشاهد الفيلم قائد "الإرهابيين" وهو يقتل مواطناً عراقياً بوحشية. وفيما يعتبر الفيلم ذلك دليلاً على ضرورة التعامل مع هؤلاء بالوحشية ذاتها، فإنه يتجاهل أنه يعبر عن وجهة نظر المحتل الذي قرّر الاستيلاء على مقدرات بلاد لا يحق له أن يتصرف فيها، بينما الآخر، مقاوم الاحتلال، قرّر أن يتخلص من خائن تعامل مع الأعداء حتى لا يخونه آخرون، وهو أمر شائع في كل أدبيات المقاومة في العالم.

في مشهد آخر يحاول المخرج أن يستدر عطف الجمهور تجاه القناص الأميركي، الذي يطلق رصاصه القاتل على عراقي كاد أن يطلق قذيفة "آر بي جيه" تجاه مدرعة أميركية، وعندما يسقط الرجل بجوار المدفع قبل أن يطلق قذيفته، يقترب طفل يبدو في السادسة أو السابعة من عمره، ويحاول حمل المدفع واستكمال ما بدأه الرجل المضرّج بالدماء إلى جواره.

يقرّر القناص كجزء من عمله منع التهديد الذي يحيق بالجنود الأميركييين: يوجه بندقيته صوب الطفل، ثم يتململ فجأة متذكراً طفله، الذي هو في العمر ذاته تقريباً، ثم يتمتم بصوت خافت مصلياً كي يترك الطفل المدفع ولا يكمل ما ينوي فعله، حتى لا يضطر إلى قتله. يتنفس الصعداء أخيراً عندما يلقي الطفل المدفع بعدما اكتشف أنه غير قادر على إطلاق القذيفة.

مشهد إنساني مؤثر، يبدو وكأنه تم حشره في الأحداث كبرهان على إنسانية الجندي الأميركي الذي بات أقرانه يتفاخرون بعدد من قتلهم، والذي تجاوز المئة، لكنه لا يقتل الأطفال، وهذا يكفي دليلاً على أنه صاحب حسّ مرهف.

تظل أفضل مشاهد الفيلم هي تلك التي تظهر فيها بطلته تايا (سيينا ميللر)، الزوجة التي تريد أن يترك زوجها الجيش ويعود إلى الوطن ليشاركها تربية الأطفال، والحبيبة التي تعيش قلقاً دائماً على مصير زوجها، والتي توقن مرات عدة أنه قُتل هناك بعيداً، وأنها لن تراه مجدداً.

ثمة قصة أخرى، هامشية في الفيلم، وجرى التعامل معها بسطحية، غير أنها تبدو ذات أهمية في الفيلم: ينافس القناص الأميركي الأسطوري، قناصٌ عربي آخر أسطوري طوال الأحداث. في مشهد سريع، نعرف أن القناص العربي ليس عراقياً، إنما سوري الجنسية، ترك بلده ليشارك في مقاومة المحتل، ونعرف أيضاً أن القناص العربي كان بطلاً أولمبياً حائزاً على ميداليات.

لم يتطرق الفيلم كثيراً إلى حياة القناص العربي، فقد كان كلينت إيستوود مهتماً أكثر بالقناص الأميركي وتفاصيل حياته. ربما هو أيضاً لا يمكنه إدراك أسباب ترك بطل أولمبي لبلده وانتقاله إلى بلد آخر لمقاومة عدو لا يهدّد أمنه الشخصي، وربما لن يفهم كيف يقرر شاب في مقتبل الحياة أن يترك الشهرة والنجومية ويذهب راضياً إلى ميدان قتال يعرف أنه غالباً لن يخرج منه حياً.

وعلى أي حال، لا يمكن فصل قصة القناص العربي عن قصص أخرى متداولة حالياً عن شباب عرب يتركون بلادهم ومستقبلهم للتطوع في "داعش".

رُشّح الفيلم لستة جوائز "أوسكار"، بينها أفضل فيلم، وأفضل ممثل في دور رئيسي لبرادلي كوبر، وأفضل سيناريو مقتبس للكاتب جيسون هول، على الرغم من أن أحد أبرز أسباب ارتباك الفيلم هو مستوى السيناريو الذي فشل في تقديم حبكة مقنعة، الأمر الذي حاول كلينت إيستوود، كممثل مخضرم ومخرج قدير، إخفاءه بتصوير متميز وأداء ممثلين عالٍ. لكن، بعيداً عن ذلك، يبقى الفيلم متحيّزاً للجندي الأميركي على حساب الآخرين ممن يقتلهم لاحتلال بلدانهم.

المساهمون