- إليزابيث سوزان كسّاب تستعرض في ندوتها "نكبات وثورات" أفكار قسطنطين زريق حول العقلانية والموضوعية، مؤكدة على أهمية النقد العربي الجديد.
- كسّاب تناقش تأثير النسوية العربية والعنف السلطوي في المنطقة، مشيرة إلى تحول في النظر إلى أوروبا كمرجعية أخلاقية ومعرفية.
بعد تأجيله بسبب العُدوان الصهيوني على غزّة، افتُتح الاثنين الماضي مؤتمر "مؤسّسة الدراسات الفلسطينية" السنوي، الذي تواصلت أشغالُه لثلاثة أيّام تحت عنوان "75 عاماً من النكبة المستمرّة: الإنتاجات المعرفية"، وعُقد في بيروت وبيرزيت ونيويورك وافتراضيّاً عبر "زووم"، بمشاركة عدد من الباحثين والأكاديميّين والمؤرّخين من فلسطين والعالَم. ومن جلسات اليوم الأول، حاضَرت الباحثة اللبنانية إليزابيث سوزان كسّاب، رئيسة مجلس أمناء "المجلس العربي للعلوم الاجتماعية"، مُستعيدة إرث المؤرّخ والمفكّر السوري قسطنطين زريق (1909 - 2000) في ندوة بعنوان "نكبات وثورات: نحو نقد عربي جديد".
انطلقت كسّاب من سؤال مركزي: كيف نُواجه الأحداث التي تعصف بالمنطقة العربية بأفكارنا؟ ومن هنا حاولت الدخول إلى عالم قسطنطين زريق الفكري، مُعتبرةً "أنّ هزيمة 1967 قد شكّلت صدمة للكثير من الرؤى والتيارات على المستوى السياسي، وهذا المنعطف لم يكن ليتكرّر مرّة ثانية في تاريخنا حتى عام 2011، مع ما حقّقته الانتفاضات الشعبية".
عادت صاحبة "تنوير عشيّة الثورة: النقاشات المصرية والسورية" (صدرت ترجمته بتوقيع محمود الحرثاني ضمن سلسلة "ترجمان، المركز العربي"، 2021) إلى كتاب زريق "معنى النكبة" (1948) بـ"أسلوبه الذي سيُرافقه طيلة ستّين سنة تالية من مسيرته الفكرية، والذي يتميّز أولاً بالموضوعية، بعيداً عن الحماس، لكن بذات الوقت من دون أن تلمَس في نصّه نوعاً من اليأس، وربّما هذه الموضوعية التي أبعدته عن الشعبوية هي ما جعلت اسمه أقلّ انتشاراً من غيره. كما أنّ قوميّته ظلّت في إطارها الإنسانوي العام، لا الضيق الهوياتي". وتابعت: "تناول زريق العقل بشقَّيه الفكري والأخلاقي، والمزج بين المعرفة والهمّ الأخلاقي عنده لا يشتغل بالحتمية، هذه هي حدود العقلانية عند المؤرّخ والمفكّر السوري".
عمّق المُقاربة النقدية بعد هزيمة 1967 ولم ينشغل بضجيج الفكر
كذلك لفتت كسّاب إلى كتاب آخر "في معركة الحضارة" (1964): "حيث لا نجد فيه وعلى مدار 400 صفحة كلمة هويّة ولو لمرّة واحدة"، كما أشارت الباحثة إلى دور "معنى النكبة مُجدّداً" (1967) في تأسيس ذهنية نقدية عربية جديدة (من المؤسِف، وفقاً لكسّاب، أنّ النسوية العربية أُقصِيت عن النقاش النقدي بعد 1967، وتولّى الأخذ والردّ المفكّرون الذكور، وإن كان الباحث ساري حنفي قد اختلف معها في هذه النطقة عبر مُداخلته لافتاً لجَهد فاطمة المرنيسي ونوال السعداوي).
اجتراحُ خطّ نقديّ ضدّ مقولة سقوط العروبة واليسار التي راجت بعد هزيمة 1967، يعود الفضل فيه إلى زريق، وفقاً لكسّاب: "حيث ذهبَ إلى تعميق المُقاربة النقدية إلى أبعد حدودها، من دون أن ينشغل بـ'ضجيج الفكر'، وبأسئلة لا معنى لها من قبيل: هل نحن أمام أزمة في الثقافة؟ التي صاحبتها ظهور تشكيلة ثنائيات كالحداثة والتراث، والأصالة والمعاصرة، وما إلى هنالك. وفي الحقيقة كلّ هذه الحوارات لم تُكُن لتُزعِج السُّلطة بشيء بالعكس تماماً. في حين كانت مشاكلنا سياسية في الدرجة الأولى، تتمثّل بتغييب الشعب وعدم إشراكه في صنع القرار. وهذا ما قاد إلى لحظة فارقة هي لحظة 2011، حيث خرج الناس لمواجهة الموت من أجل الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية".
وشدّدت صاحبة "الفكر العربي المعاصر: دراسة في النقد الثقافي المقارن" (2010) على "أنّ هناك قسمة كانت دائرة في الفكر العربي، بين ما يدور داخل أسوار الأكاديميات حول التنوير من جهة، وما يُنتجه الأدب والصحافة حول مسألة الحرّيات والسلطة. وبالتالي هذا الخط النقدي السياسي، الممتدّ من 1967 إلى 2011، لا يمكن قراءته من دون الرجوع إلى كتابات زريق، والتمعّن بقضيّة تعني الناس مباشرة هي السلطة والقمع بعيداً عن جدالات الهوية، عند هذا الحدّ يأتي دور الجندر، ليس كفرع مُنعزل في العلوم الاجتماعية بل كمفتاح تحليلي لفهم هيكلية السُّلطة التي نعيش في ظلّها".
وختمت: "العُنف الذي نختبره منذ أكثر من عقد، هو حالة توحّش سلطوي تدفع للتأمّل، لم يكد أن يصل بنا إلى عام 2023 حتى كشَف عن تحوّل عميق آخر، نحن نشهد تصدُّعاً كبيراً في النظر إلى أوروبا كمرجعيّة أخلاقية ومعرفية أمام هول الإبادة في غزّة".