"فجر ليبيا" عملية عسكرية أم مشروع سياسي؟

"فجر ليبيا" عملية عسكرية أم مشروع سياسي؟

20 نوفمبر 2014
+ الخط -

يكشف حكم المحكمة العليا في قضية مجلس النواب الليبي انحياز الأمم المتحدة إلى رؤيتها التاريخية للدولة العربية، الأمر الذي فسّر دعمها السياسي، غير المعلن، دولاً تصفها بالاعتدال (مصر، الإمارات، السعودية)، تعمل على إرجاع الدولة الأمنية والعسكرية، بشكلها التقليدي القائم على العنف والإرهاب والقمع. ففي وقت سارعت فيه الأمم المتحدة إلى دعم حكم المحكمة العليا في قضية معيتيق، بداية يوليو/ تموز الماضي، ضد المؤتمر الوطني، تلكأت في قبول الحكم الصادر ضد مجلس نواب طبرق الذي تدعمه مصر والإمارات والسعودية.

تبيّن بما لا يدَع مجالاً للشك عمق العلاقات التاريخية وتأثيرها بين أطرافٍ خارجيةٍ وداخليةٍ، تتقاطع مصالحها مع تمكين الدولة الأمنية والعسكرية (انقلاب سبتمبر)، من جديد، وإقصاء الأطراف السياسية والعسكرية التي تعارض عودتها من فجر ليبيا ومجلس شورى ثوار بنغازي واتجاهها السياسي الداعم لها (ثورة فبراير).

ولم يعد خافياً على المتابعين للشأن الليبي خارطة التحالفات السياسية في ليبيا، بعد انقلاب عبد الفتاح السيسي في مصر على السلطة المنتخبة، وتحالف السيسي مع دول في مجلس التعاون الخليجي، لاستنساخ سيناريو الانقلاب في ليبيا. وكان دبلوماسيون أميركيون، قد أُعلنوا، في وقت سابق، مشاركة طائرات إماراتية في ضرب مواقع لقوات فجر ليبيا، حينما كانت تتقدم في معركة المطار، وتلحق هزائم بالكتائب المحسوبة على جيش القذافي السابق (اللواء 32 معزز) الصواعق والقعقاع.

وقد ألقت هذه التطورات في المنطقة، بظلالها على ليبيا، فأحدثت تحوّلاً مفاجئاً في سياسات بعثة الأمم المتحدة، فطوت مشروع تقاسم السلطة بين رجال (انقلاب سبتمبر وثورة فبراير)، وعيّنت مبعوثاً جديداً، غضَّ الطرف عن خليفة حفتر وعملية الكرامة طوال الفترة الماضية. وجاء مشروع تقاسم السلطة في خطاب الأمم المتحدة، في بداية يونيو/حزيران الماضي، وفي لقاءات المبعوثين الأميركي والبريطاني مع الأطراف السياسية التي جرت في العاصمة، قبيل انتخابات مجلس النواب. وكان المبعوثان قد قدّما مبادرة لجمع الأطراف السياسية للحوار بشأن المستقبل السياسي في ليبيا، وظهر، في تلك الفترة، ما اصطلح عليه بإعادة بناء العملية السياسية.

وما انفكّت دول الاعتدال (مصر، الإمارات، السعودية) تسعى، جاهدةً، مع رجالات النظام السابق على تقويض المسار السياسي في ليبيا، منذ اندلاع الثورة في 17 فبراير، لإعادة إنتاج المنظومة السابقة، وبمباركة دولية، ضاقت خياراتها السياسية؛ نظراً لتضارب المصالح بين أمن إسرائيل ومصالحها الاقتصادية في المنطقة.

إذن، يمكن القول إن الأبجديات السياسية التي أسس، بموجبها، النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، وجماعات الضغط والمصالح الاقتصادية، لم تستوعب التغيير الحاصل في ليبيا، فهي تصر على دعم نخبة فاشلة، تتكون من بقايا الدولة الأمنية والعسكرية (المنشقّين)، وحاضنتها الاجتماعية (القبائل) ونخبة ليبرالية مقطوعة الصلة بالواقع الليبي، جرى استيعابها في مشروع إرجاع الدولة الأمنية العسكرية.

وعلى الرغم من مضيّ أكثر من خمسة عقود على الحرب العالمية الثانية، وظهور الدولة الأمنية والعسكرية في ليبيا والعالم العربي، إلا أن ما مضى من عمرها زاد من عجزها، وعدم قدرتها على إعادة إنتاج نفسها داخلياً من غير دعم إقليمي ودولي.

وأضحى عامل الزمن يدفع صوب حقيقة تراجعها وانكسارها في ليبيا، وهذا سيقودنا إلى أمرين مهمين، أولهما أن خيار مقاومتها بالمسارات السياسية والعسكرية رسم تجربة جديدة تخدم التغيير الجذري وتقطع، بشكل باتّ، الجدل بشأن جدوى إصلاحها. والثاني يؤكد أن الدولة الأمنية والعسكرية لم يعد في وسعها الإجابة عن أسئلة الهوية لحربها المستمرة على التدين، أو العدالة الاجتماعية، لعجزها عن مكافحة فسادها المالي والإداري، أو الحرية عندما تنكبت عن قبول بالعملية السياسية المبنية على المشاركة السياسية.

وما أن أطلق اللواء المتقاعد عملية الكرامة في المنطقة الممتدة من الحدود الشرقية مع مصر إلى مدينة بنغازي، حتى رجعت الأجهزة القمعية والأمنية في مدن طبرق والبيضاء والمرج والمناطق التي تقع بينها، بقيادتها السابقة المتهمة بقمع ثورة 17 فبراير، ومحاربة التدين، تحت شعار محاربة "الزندقة". 

وتحتّم حقيقة الصراع مع الدولة الأمنية والعسكرية على الثوار في ليبيا نضجاً أكبر في الفكر السياسي، يضع في اعتبارهم السياقات التاريخية والعلاقات الدولية والإقليمية، والتي لم تستوعب بعد التغييرات الاجتماعية وإرادة قوى الثورة في ليبيا على التغيير، وقدرتها على إحداث مفاجآتٍ، لم يتوقعها مندوب الأمم المتحدة في ليبيا.

لن يخضع الثوار لإرادة الأمم المتحدة ومندوبها في ليبيا ولسياساتهم التي ترسم بعيداً عنهم، وسيدفعهم الواقع والصراع الصفري الذي تفرضه الدولة الأمنية والعسكرية إلى البحث عن حلفاء جدد، تتقاطع مصالحهم مع التغيير في مراكز القوى في ليبيا. إضافة إلى إنضاج مساعي مأسسة الحسم العسكري لعملية فجر ليبيا، سياسياً وعسكرياً وأمنياً وإعلامياً، لإسقاط مشروع الانقلاب والاستبداد.

avata
أنس الفيتوري

كاتب صحفي ليبي، عمل مدير تنفيذياً لمؤسسة العين للصحافة والإعلام والدراسات، وعمل في قناة الجزيرة مسؤولاً عن الملف الليبي في أثناء الثورة.