"داعش" وما وراءه

"داعش" وما وراءه

22 اغسطس 2014

خريطة توضح مناطق سيطرة "داعش"

+ الخط -


وكأنهم يجيئون على قدرٍ لإفساد ثورات الشعوب وإرهاقها، وحرفها عن مسارها وتشويه صورتها. هذا هو بالضبط ما تفعله تلك التنظيمات المتطرفة، والمنفلتة من عقال الأخلاق والمنطق، كما في نموذج تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).

القصة، قطعاً، لم تبدأ بـ"ذبح" الصحافي الأميركي، جيمس فولي، قبل أيام، والذي كان قد اختطف في سورية قبل عامين، بالطريقة الوحشية التي سجلتها كاميرات فيديو هذا التنظيم المتطرف، وهي، قطعا، لن تنتهي بذلك المشهد المقزز لعملية "النحر".

"داعش"، شكل، وما زال، عامل إرهاق واستنزاف للثورة السورية، وهو قتل من الثوار، ربما، أكثر مما قتل من جنود النظام نفسه. وفي حين كان ثوار سورية يوجهون سلاحهم نحو نظام مجرم سحق شعبه، ودمر بلده، كان "داعش" القادم عبر حدود العراق عام 2013، يطعن الثورة السورية في الظهر. المثير، هنا، أن "داعش" لم يوجه سلاحه نحو التيارات غير الدينية في الثورة السورية، فحسب، بل استهدف الجميع، وعلى رأسهم الإسلاميون، حتى الذين يشتركون معه في أصل الفكر والتنظيم والانتماء إلى "القاعدة" سابقا، كتنظيم "جبهة النصرة". ولعله من المهم، هنا، أن نذكر أن زعيم القاعدة نفسه، أيمن الظواهري، ومنظري السلفية الجهادية، أمثال الأردنيين، أبو محمد المقدسي وأبو قتادة، دانوا هذا التنظيم وتصرفاته الوحشية والضارة، ودعوه إلى حصر ساحة عمله في العراق، فما كان من التنظيم إلا أن أعلن انفكاكه عن "القاعدة" ونزع "بيعته" لها.

وعندما بلغ الحنق بين صفوف السنّة العرب في العراق مداه، جراء سياسات رئيس الوزراء المنتهية ولايته، نوري المالكي، الطائفية والإقصائية والقمعية، وجد "داعش" له بيئة حاضنة، وركب موجة الغضب التي عبرت عن نفسها، في يونيو/حزيران الماضي، بسيطرة مقاتليه، بالاشتراك مع مسلحي العشائر السنيّة العراقية، على مدينة الموصل، فضلاً عن مساحات شاسعة في شمال العراق وغربه. صحيح أن مقاتلي "داعش" كانوا أعظم أثراً في العمليات العسكرية ضد قوات الجيش والأمن العراقيين، غير أن الصحيح، أيضاً، أنهم أقل عدداً، وبشكل كبير، مقارنة بمسلحي العشائر، وأنهم ما كان لهم أن يهزموا تلك القوات الرسمية، لولا ذلك التحالف مع مقاتلي العشائر، غير أن "داعش" لم يُلق بالاً لهذه الحقيقة، كما أنه اختار أن يُهمل، أيضا، حقيقة أن حاضنة "الثورة السنية" على ظلم سياسات المالكي الطائفية لم تكن بنيّة تقسيم العراق وإقامة "خلافة إسلامية" مزعومة، يحكمها مجهولو هويةٍ، يحملون أفكاراً متطرفة ومجنونة. ومع ذلك، مضى "داعش" بمنطقه الأعوج، معلناً "خلافة إسلامية" على جانبي الحدود العراقية-السورية، لكنها ليست خلافة أمن وأمان وازدهار، بقدر ما هي "خلافة" سفك دماء وقمع وخوف وتخلف.

ولأن "داعش" يحب أن يبقى وفياً لمبدئه الأساس، المتمثل في استنزاف وإرهاق وتشويه وحرف بوصلة أي ثورة مشروعة ضد الظلم والطغيان، فإنه ما لبث أن وجّه سلاحه تجاه الأقليات الدينية في العراق، وتحديدا مسيحيي العراق والأيزيديين، على أساس أنهم "كفار"، وكأن تاريخ الإسلام الذي وسعهم قروناً، ومنذ عهد الصحابة الكرام، كان ينتظر "الخليفة" الفهلوي، أبو بكر البغدادي، ليصحح فيه مسار أصل الاعتقاد، وأسلوب التعامل مع الأقليات الدينية، في فضاء الإسلام الرحب!

وهكذا، توحد خطاب نظام بشار الأسد، وخطاب داعميه في قمع الشعب السوري، إيران وحزب الله، مع خطاب الغرب في التحذير من خطر "داعش" وتيارات "الإسلام السنّي المتطرفة"، وضرورة التوحد في التصدي لها ومجابهتها! وفي الاتجاه نفسه، تسير الأمور في العراق، وإن كان بشكل أسرع وأوضح. و"فجأة" أصبحت الثورة ضد الظلم والطغيان، حسب هؤلاء، بيئات حاضنة للتطرف والإرهاب، لابد من التصدي لها وتجفيف ينابيعها.

لا أريد، هنا، أن أتورط في تبني "نظريات المؤامرة" عن جذور "داعش"، ومن يقف وراءه، أو من يوجه سياساته وفعله على الأرض، ولخدمة أي مصالح، فمثل هذه المزاعم لا توجد أدلة قاطعة حاسمة حولها وفيها. غير أن ثمة أمراً واحداً واضحاً، وهو أن أفعاله ضارة مؤذية لأي ثورة حرية وكرامة عادلة. وسواء كان ذلك بتوجيه وتخطيط من طرف ثالث، أم نتيجة لحماقة "الداعشيين" ومن والاهم، فالنتيجة تبقى واحدة.

هنا، يمكن القول، وبكثير ثقة، إن التطرف والتشدد صنوان للضحالة والجهل، والضحالة والجهل يسهلان إمكانية الاختراق، أو التوظيف لأصحابهما. وبالتالي، لا يستبعد أبدا أن يكون ثمة طرف ثالث، أو أطراف أكثر، تتلاعب بـ"داعش" وتوجهها، من دون تواطؤ من الأخير، بالضرورة، بقدر ما أنه تعبير حقيقي عن مستوى ضحالة هؤلاء وجهلهم. وكم من حماقة وسفاهة قتلتا صاحبهما أولاً، وأتتا على مصالحه ومشروعه بشكل أعظم أثرا وأكثر فاعلية من قدرة الخصم أو العدو على إحداث العطب ذاته أو الضرر.

ومسألة أخرى، ما زال كثيرون، خصوصاً في صفوف بعض المتدينين، يرفضون الاعتراف بها، وهي أنه، نعم، ثمة تطرف بين بعض الشباب الإسلامي اليوم، سواء بسبب القمع والظلم، أو الجهل والضحالة، غير أن هذا التطرف موجود، وفي إنكاره وعدم التصدي له ضرر واستنزاف للحالة الإسلامية ذاتها قبل غيرها. وقد تعرض الإخوان المسلمون أنفسهم للاستنزاف من قبل بسبب هذه الظاهرة، وثمة نماذج كثيرة غير قابلة للحصر هنا، أين وظفت أفعال بعض الشباب الطائش ضد الحركة الإسلامية العاقلة عموماً. بل إن حماس نفسها، وهي حركة مقاومة، تسطر اليوم أروع صفحات المقاومة في تاريخ الأمة، وجدت نفسها يوماً موضوع مزاودة عليها وعلى مقاومتها، بل وعلى إسلامها، من حفنة من المتنطعين المتشددين، وربما المخترقين والموجهين، أيضا.

بكلمة، التطرف موجود في هذه الأمة منذ صدر الإسلام الأول، وكتب الحديث، كما في حديث صحيح مسلم، تخبرنا عن قصة ذلك الرجل "كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ مُشَمَّرُ الْإِزَارِ"، الذي بلغت فيه الوقاحة أن يطالب الرسول الأكرم، عليه الصلاة والسلام، أن يتقي الله! فأجابه: "وَيْلَكَ أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ"!؟ فنظر إليه عليه السلام وهو مُوَلٍ، فَقَالَ: "إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا، قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ رَطْبًا، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ". وقد كان ذلك حال الخوارج، الذين استحلوا دمَّ الخليفة الراشدي الرابع، وصحابي الرسول الأكرم، وابن عمه، علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه. وهم من ذلك الحين لا يفتأون يظهرون في كل مفصل تاريخي تجري فيه فتن في جسد هذه الأمة، وهاهو "داعش" اليوم يستحل دماء المسلمين، حتى من المتدينين (وليس من غير المسلمين فحسب)، كما في حال "فقهاء" أشقاء الأمس في "جبهة النصرة"، تعدمهم وتصلبهم، بذريعة "الردة"، وفوق هذا وذاك، تنقل، بحماقاتها أو بتخطيط مدروس، الاستنزاف من ساحة العدو إلى ساحات الثورات، وتوحد الفرقاء ضد تطلعات شعوبنا إلى الحرية والكرامة.