"الفوضى الخلاقة" تعود إلى الوطن

"الفوضى الخلاقة" تعود إلى الوطن

16 فبراير 2017
+ الخط -
قبل سنواتٍ من ظهور الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مرشحاً للرئاسة ثم رئيساً، وقبل ضجيجه الذي صم آذان الجميع، كشفت وزيرة الخارجية الأميركية الأسبق، كونداليزا رايس، سنة 2005، عن مشروع الفوضى الخلاقة، قائلة إن أزماتٍ وقلاقل وحروباً وكوارث سوف تقع، بعيداً عن حدود دولتها. لكن، غاب عن بال رايس أن أي دولةٍ في العالم الذي ساهمت بلادها، عبر العولمة، في جعله قريةً صغيرةً، قد تصبح، من حيث لا تدري، بؤرة لتلك الفوضى على يد رئيسٍ فالتٍ من عقاله، على شاكلة ترامب، وهي ما بدأنا نرى بعض ملامحها منذ اللحظات الأولى لتسلم الرجل منصبه.
ربما وضعت رايس في حسبانها أنه سيصيب بلادها شظايا من الحوادث التي ستقع خلال تنفيذ مشروع الفوضى الخلاقة على الأرض، وستكون هنالك إصاباتٌ طفيفة، تُهمل إذا ما قورنت بحجم ما ستجنيه بلادها من نجاحاتٍ وانتصارات، تصب جميعها في إطار المشروع الأكبر، مشروع العام 2000 للقرن الأميركي الجديد. هذا المشروع الذي قرّر مخططوه إعادة تشكيل العالم، كي يتوافق ومصالح أميركا، فتختفي، في أثناء التنفيذ، دولٌ وتظهر أخرى، بهوياتٍ مختلفة. كما تنقسم دولٌ إلى دويلاتٍ، وتتشكل دولٌ أكبر من دولٍ أصغر، مُؤكّدين أن دماءً كثيرةً ستسيل خلال هذه العملية.
ولكن، ليس هنالك ثابتٌ في السياسة والحروب، حيث قد تنقلب المنافع المرجوّة أضراراً، وتغير النيران وجهتها لتعبر المحيط عبر أشكال غير معهودةٍ، وتتبدّى في أشكالٍ غير معهودة أيضاً. ولا شك فإن اتخاذ إجراءات للوقاية من أضرار الحروب التي تضرب المنطقة العربية، وغيرها من المناطق، هو بحد ذاته من أشكال التورّط في هذه الحروب، فاتباع دولةٍ ما إجراءاتٍ من هذا القبيل ستحدث اضطراباً في مجتمعها وبنيته، وقد رأينا ذلك منذ إعلان ترامب إجراءاته، وهو لم يزل مرشحاً للرئاسة. حيث أحدث إعلان خططه لحماية بلاده من الأخطار القائمة خارج حدودها فوضى كبيرة وتأويلات لا تعد ولا تحصى. ثم جاء نجاحه في الانتخابات، وبالتالي رؤية خططه النور، عبر قراراتٍ اتخذها بعد تسلمه السلطة، لتجعل تلك الفوضى أمراً قائماً، يخوض فيها السياسيون، وأبناء الشعب الأميركي، على السواء.
ومن أوجه الفوضى الانقسام الذي شهدته أميركا بعد إعلان ترامب ترشّحه للرئاسة وطرحه 
برامجه، ليتعزّز ذلك الانقسام مع فوزه في الانتخابات، ووصوله إلى البيت الأبيض. فعلى عكس كل الرؤساء الذين سبقوه في حكم الولايات المتحدة الأميركية، جاء نجاح ترامب مكرِّساً انقسام الأميركيين الذي ظهر في الحملات الانتخابية. انقسام كان مشهد تنصيبه الصورة الأنصع له، والذي لم يسلف أن حصل قبل ذلك. وأخذ هذا الانقسام يزداد، وتزداد حدّته وتتنوع أشكاله، مع كل يومٍ يمضيه ترامب في الحكم، ومع كل قرار يتخذه. فحفل تنصيبه كان ظاهرةً لم تحصل من قبل، من حيث مقاطعة الساسة ورجال الفن والمجتمع. فمن غير المعهود مقاطعة أكثر من خمسين عضواً في الكونغرس تنصيب رئيس البلاد، مهما كان توجههم السياسي، إضافة إلى مقاطعة عاملين في البيت الأبيض وفي مؤسسات الرئاسة. وفي هذا الإطار، وجد الأميركيون أنفسهم يستخدمون تعابير مخيفة في التعليق على فوز ترامب، فانتشرت كلمات من قبيل: "انقسام المجتمع الأميركي" و"الخوف" و"البيت الأبيض، منزل الرعب" وكانت الأهم عبارة: "ليس رئيسي" التي ذاعت، ورُفعت في المظاهرات وخلال تنصيبه، كونها تختصر حالة الانفصال بينه وبين أبناء الشعب.
وكانت الخضَّة الأقوى التي ضربت أميركا حين أعلن ترامب قرار منع دخول رعايا سبع دول إسلامية إلى أميركا. إذ تبين أن على يديه ستصبح أميركا، أيقونةَ العولمةِ والانفتاح، كما يعتبرها أهلها، دولةً منعزلةً، أين منها كوريا الشمالية. فنواياه إقامة أسوار مادية ومعنوية حول حدود بلده، والانكفاء إلى داخل هذه الحدود، عبر شعار "أميركا أولاً"، وما يترتب على تطبيقه من فك التحالفات التي شكلت أساس قوة بلاده عقوداً، وإعادة النظر ببعض الأحلاف، مثل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وغيره، وخططه للخروج من معاهدات تجارية، سيعزل أميركا ويؤثر على اقتصادها المعولم. وهو أمر خطير جداً بالنسبة إلى الأميركيين الذين لم يحفلوا باستهداف ترامب قانون الرعاية الصحية (أوباما كير) الذي يمسّهم مباشرة، بقدر ما حفلوا بقرار المنع، كونه يمس صورة بلادهم.
وعلى الرغم من أن شكوكاً حامت، خلال حملة ترامب الانتخابية، بشأن قدرته على تنفيذ
خططه منع دخول المسلمين أميركا، إن وصل إلى البيت الأبيض، بل وعَوَّلَ مراقبون على تراجعه عن خطابه العنصري تجاه المسلمين وتحميلهم مسؤولية الإرهاب وإبرازهم مشتبها بهم دائمين، بسبب ما يمكن أن يشكله هذا الأمر من مشكلات مع الدول المسلمة، غير أنه خيب آمال هؤلاء، واستعجل إصدار قرار المنعِ، ما أحدث مشكلة غير مسبوقة، وشكلاً جديداً لانقسام المجتمع الأميركي، حين أُجبِرَت فئة القضاة والمحامين على معارضة قراره، فأصدر أحد القضاة قراراً يعلق العمل بقرار المنع، ثم نية ترامب استصدار قرارٍ يوقف قرار القاضي، وهو ما يهدّد ببروز مشكلة قضائية في البلاد، ويبرزه محاولاً العمل خارج إطار المؤسسات، أو على الأقل تطويعها، إن لم يستطع القفز عليها، كما بانَ إقالته وزيرة العدل بالوكالة، حين رفضت تطبيق قرار المنع.
وعلى يدي ترامب، ستصبح أميركا أيقونة الديمقراطية وواحة الحرية، كما يعتبرها أهلها، بلاداً للقمع والخوف. قمعٌ تبدت أول تجلياته في إعلان الرئيس كرهه الإعلام ونيته تقييد حريته. وهنا يقول لنا العارفون بأمور أميركا الفرقَ بين حرية الإعلام، على شاكلته الحالية، وما يمكن أن يصبح عليه، وتصبح عليه البلاد إن نفَّذ ترامب وعيده. بعد ذلك، هل ستصبح لأميركا هوية تُظهر فيها تفردها بين دول العالم؟ ذلك ما تحاول المظاهرات التي انطلقت فور إعلان فوز ترامب، واستمرت وتكثفت يوم تنصيبه وبعده، أن تمنع حصوله.
هنالك من يقول إن الابتعاد عن المؤسسات واتباع الفوضى في اتخاذ القرارات، واتخاذ القرارات التي تُحدِث الفوضى هي البيئة التي يحبها ترامب، ويؤمن أنها سبيله للحصول على النتائج التي يرغب. تضاف إليها مواظبته على استخدام برنامج التواصل الاجتماعي "تويتر"، لبث رسائله وتحديد مواقفه من الحوادث، وهو ما يعد خرقاً لقواعد البيت الأبيض في التصريح عن مواقفه ومواقف الرئيس. واستمراره على هذا المنوال، سيُحدث التربة المناسبة لأي قلاقل، قد تتطور إلى إعلان عصيان أو انفصال ولايات عن الاتحاد، لتنضم أميركا إلى الدول التي يجري فيها توطين مشروع الفوضى الخلاقة.
46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.