عن نزار ريان، بعضُ ما لم يُنشر!

عن نزار ريان، بعضُ ما لم يُنشر!

16 يوليو 2015
كان رحمه الله قليل الأمر والنهي (Getty)
+ الخط -
قال لي: ناولني شاحن الجوّال سريعًا يا ولدي.
انطلقتُ إلى غرفته، وأحضرتُ الشاحن، وناولتُه له في يده، بدلًا من وصله بالكهرباء ثم الهاتف!
فما كان منه إلا أن وضعه في فمه!
خجلتُ بشدّة، ماذا يريدُ من الشاحن إلا أن أوصله بالهاتف!

أحيانًا كان يطلبُ منّي كأس ماء مثلًا، وأكون أنا ذاهلًا لحظة ما يطلبُ منّي، فأنطلق مسرعًا ملبّيًا أمر الوالد، فما أن أخرجُ من باب الغرفة حتى أكتشف أنني نسيتُ المطلوب، أو لم أحفظه من الأصل! فأعود إليه خجلًا: "شو قلت يابا؟" فيجيبُني مُغضبًا: "ولا إشي!".


كان رحمه الله ينزعجُ إذا استشعر نقصًا في بديهتي، أو بطئاً في ردّة فعلي! وكان يصبرُ عليّ كثيرًا، وأحيانًا يؤدّبني بمثل هذا المواقف الطريفة!

منذ طفولتي كان فيّ شيئان متناقضان! فمن جهةٍ كنتُ دقيق الملاحظة النظرية، جيّد التحصيل الدراسيّ، ومن أخرى كنتُ أذهلُ عن أبسط الأشياء ولو كانت أمامي!

كان والدي رحمه الله عائدًا يومًا من المسجد، فاشترى أشياء من الباعة الذين يقفون ببابه، وكان معه مجموعةٌ من تلامذته يمشون معه، فكره رحمه الله أن يحملوا عنه، وكان لا يحبُّ أن يحمل عنه غيرُ أولاده وأشقائه، فرآني مقبلًا باتجاهه، فقال لمن معه: إنّ براء الآن سيأتي ويُسلّم علينا، وسينسى أن يحمل عنّي شيئًا من هذه الأغراض!
فكان مثلما قال!

وضحك القومُ من ذلك طويلًا، وكان الوالد رحمه الله إذا فسّر قوله عزّ وجلّ: "يعرفونه كما يعرفون أبناءهم"، ذكر هذه القصة.

طالما قاومتُ بشدّةٍ هذا الذهول الخارج عن إرادتي، والمتسبب بكثيرٍ من الحرج لي، وتخلّصتُ من كثيرٍ منه، غير أنّه بقي فيّ قدرٌ لا بأس به أيضًا!

كنتُ يومًا خارجًا من مسجد العودة بمخيّم جباليا، وكان معي شقيقي الشهيد غسّان رحمه الله، الذي يصغرني بسنين، فعثرنا بعمّي/ عمّ والدي "أبو أشرف"، وكان يحملُ على كتفه سلّة بُرتقال كبيرة اشتراها، فسلّمنا عليه، ومشينا معه، حتى قال لي غسّان هامسًا: "لو نحمل عن عمّي يا براء"! فقلتُ منفعلًا: "الله يرضى عليك يا غسّان"، وسارعتُ إلى عمّنا الكبير فحملتُ عنه، ولولا نبّهني غسّان لسرتُ معه، والسلّة على كتفه إلى آخر الطريق!

كلّما تذكّرتُ هذه المواقف، وكيف كان الوالدُ يعالجها، بالصبر حينًا، والتوجيه اللطيف أحيانًا، وقر في قلبي أنّ والدي رحمه الله بقدر ما كان قائدًا عظيمًا وعالمًا مجتهدًا، كان والدًا أعظم وأجمل!

أذكرُ أول يومٍ لي في المدرسة، اشتريتُ بمصروفي الشخصيّ قصة مصوّرة من قصص الأطفال، ففرح والدي بذلك أيّما فرح، وأجلسني في حجره، واستقرأني القصّة، فقرأتُها عليه، كانت السعادة تقفزُ من عينيه وهو يستمع، وجعل يسألني عن معنى هذه الكلمة، وتلك العبارة! كانت هذه الواقعة البسيطة من أهمّ ما أثّر فيّ حتّى الآن!

وكان كثيرًا ما يجلسُني إلى جواره لمراجعة أبحاثه، ويسألني عن رأيي، ويأخذ به أحيانًا، وكان يصنع هذا بكلّ أحد، وكنتُ أعجبُ من تواضع نفسه، واحترامه الناس وآراءهم، ويقينه بأنّ لكلّ واحدٍ منهم نظرةٌ لا بدّ!

ولم يتغيّر طبعُه في التعزيز بمضيّ الأيام عليّ، ولا بتقدّم سنّي، فذات مرّةٍ كنتُ على العادة أقرأ معه أحد أبحاثه، فرأيتُه نقل عبارةً عن ابن مالك النحويّ في شواهد التوضيح، خلاف ما يذكره النُّحاة في كتبهم، فلم يصوّبها رحمه الله احترامًا لابن مالك وقدره في النحو، بل نقلها كما هي، وكتب: "كذا في الأصل"، فلما قرأتُها قلتُ له: أعرفُ توجيه هذه العبارة، وسبب ذكر ابن مالك لها على هذا النحو! قال: كيف؟ فشرحتُها، فقال: وثّق لي ذلك، فانطلقتُ فوثّقتُها في دقائق معدودة، فأعجبه ذلك جدًا، وقال لي: لك بهذه مائة دولار!

من أجمل ما كان يصنعه رحمه الله معنا، أنه كان قليل الأمر والنهي، وفي أكثر الأحيان يقدّم طلباته كوجهات نظرٍ أو اقتراحات، لا كنصائح أو أوامر! فيقول: ما رأيك يا بنيّ لو فعلت كذا؟ أليس من الأفضل هكذا؟ ولا يفرضُ رأيه مهما كان يراه ضروريًا! وما خالفناه مرّةً إلا بيّنت الأيامُ حكمته وصواب رأيه!

كانت صُحبته غايةً في الجمال والخفّة، وأذكرُ أن أحد الشباب من جيراننا -بعيد عن توجه الوالد السياسيّ- قال: لو أنني أسجن مع الشيخ نزار عُمري ما مللتُ، ولا كرهتُ السّجن! ما أجمل كلامه، وما ألطف عِشرته!

وما شعر بهذا أحدٌ بقدر أهله وأولاده! كنّا نختنق إذا انقطعت الكهرباء، إلا هو! يقول: نجلسُ معًا، ونتكلّم بعيدًا عن الكمبيوتر والدراسة والإنترنت وكلّ ما يرتبطُ بالكهرباء! فكُنّا كثيرًا ما نصعدُ سطح البيت في الظلام، فنشرب الشاي، أو نشوي الكستناء إذا صادف موسمها، وينقلبُ انقطاع الكهرباء جلسةً عائليّةً وسمرًا ضاحكًا لا تعرفُه كثيرٌ من الأسر!

وكان كثيرًا ما يجمعُ العائلة على السطح، ويشوي لها بيديه، وكان بارعًا في ذلك، وكان يداعبُ الصغار ويضاحكهم ويُغنّي لهم: أزكى كباب؛ فيجيبونه: كباب الشيخ!

كان دومًا يفاجئُنا بمواقف بسيطة في ظاهرها، لكنّ الله وحده كان يعلم ما تصنعه بقلوبنا، تمامًا كوردة العاشق على غير مناسبةٍ أو توقّع!

أذكر أنّه أيقظني يومًا طرقٌ رفيقٌ على باب شقّتي، ففتحتُ الباب؛ فإذا بوالدي رحمه الله زائرًا على غير ميعاد، قد صعد الدرج الطويل حتى الطابق الرابع! وفي يده كيسٌ شفاف، فيه قطع سمك بيضاء مقطّعة، لا تحتاج إلا إلى مقلى!
فقلتُ لوالدي في استحياء: ما أصعدك الدّرج؟ فأجاب: تفضّل، هذا فطور!
فقلتُ: هلا اتصلتَ؛ فنزلتُ وأخذتُه منك! فتبسّم ومضى!

كثيرًا كتبتُ عن والدي، وافتقدتُّه قائدًا ومجاهدًا وعالمًا وإنسانًا كثير الإحسان والنفع للناس عامّة، واليوم -ونحنُ على أبواب عيد- أحببتُ أن أذكره والدًا، والدًا فقط! أشتاقُ إليه، إلى إحسانه وبرّه، وإلى تأديبه وتوبيخه أيضًا، لقد كان كلّ ذلك لذيذًا! وما زلتُ مشتاقًا، ومحتاجًا إليه، وسأبقى!

(فلسطين)

المساهمون