أرض القيامات

أرض القيامات

09 مارس 2015
+ الخط -
لم تلبَّ الدعوات إلى إحراق دواوين سعدي يوسف في شارع المتنبي في بغداد، ولم يُستجب لدعوات أخرى في الجزائر كفّرت أدونيس مستعيضةً عنه في النار بكتبه. تكفيران مختلفان، لكن المآل الرمزي واحد ومتشعب الدلالات: النار. الحرق تطهيراً من الدنس، والنار لا تفرّق بين حيّ وميت، وعبر صور الجحيم على الأقل تعبُر الدياناتِ والقارات والعصور. أوروبا، القارة العجوز، ما عادت تفترس البلدان الأضعف إلا بمقدار؛ ما عادت في شيخوختها تسمع جيداً ولا ترى جيداً كيف ألقيت كتبٌ في المواقد والأفران ليتدفأ الناس ويعدّوا خبزهم داخل مخيم اليرموك المحاصر في دمشق حيث تلاشت مكتبات شخصية، واحترقت نسخ مترجمة من إنيادة فرجيل وقصص كافكا (كان كلٌّ منهما قد أوصى بإحراق مخطوطاته بعد موته، فتحققت وصاياهما في أمكنة وأزمنة أخرى).
أحرِقت مكتبات في العراق وسورية ولبنان. كان حريق المكتبة الوطنية في بغداد، بعد الغزو الأميركي عام 2003، يُرى من مسافة ثلاثة أميال؛ تفرج عليه الجنود "المحرّرون" كأنه قيامة هوليوودية أخرى، ولم يحرك أحد ساكناً. رأينا أخيراً كيف اختطف "الجهاديون" كتباً ومخطوطات من مكتبة الموصل وكوّموها في العراء، وأضرموا فيها النيران بلهب صغير كشعلة تتناقلها الأيدي السود في أولمبياد القتل. الكتب أيضاً مخلوقات حية، دريئة سهلة ومستهدفة كالحياة نفسها. كان ذاك الحريق الكبير احتفالاً آخر بالنصر، كان محرقة ذبائحها وقرابينها الكتب، كأن الخير نارٌ يطعمونها شرَّ الحبر ونجاسة الدماء الكافرة. الأغلفة تطقطق كعظام العجائز وتتقصّف هشاشتها، فالنار هي النار لا تعرف في القتل حقبة أو ديناً أو جنساً أو عمراً، ولا بدّ لمَن تربّى على دروس الجحيم والإخافة بالعقاب أن يفكر بالثأر ويبيد الكتب التي احتوت الشعوذات والتجديف ورجس الشيطان. قبل أن يحرق النازيون شياطين الغجر والمثليين والمجانين واليهود أحرقوا الكتب المنحطة أو غير الألمانية، وكان مرجحاً بين الكاثوليكيين في القرون الوسطى أن تظهر أولى علامات الساعة في لندن البعيدة لغناها بالفحم الحجري، فيستهلّ القيامة حريقٌ كبير، وبعدئذٍ يقلّد الشياطين أساليب التعذيب التي تفنّن فيها وأشرف على تطبيقها قضاةُ محاكم التفتيش.
النار نفسها أحرقت روما ودوما وسقتِ التراب دماً في الأناشيد الوطنية. النار نفسها حصدت حقول حوران وفجّرت آبار نفط في الكويت وأشعلت المكتبات ودور الأوبرا في القاهرة ودمشق، وخنقت الأطفال في دور السينما وأجهزت على السجناء في سجون الأرياف ومعتقلات العواصم. النار عفوية وعادلة توحّد في الرماد العوالمَ والطبقات. نيران الانفجارات والقنابل الحارقة تصهر الملامح وتوحّدها، فلا يعود ثمّة فرق بين أطراف البشر والأغصان، ويبلغ التشابه بين الأشياء والمخلوقات حدّ الامّحاء.
النار في استعراضات "الدولة الإسلامية" عنيفة كالجهاديين أنفسهم، النار قلقة مثلهم تسمو وترنو إلى السماء، غامضة مثلهم في اندلاعها وخمودها، شرهة جائعة يطعمونها لحماً وورقاً ونفطاً كوحش يرغب في التهام كلّ شيء وقد تظهر ألسنته المباغتة المفزعة في أية بقعة من هذا العالم. البطولة للنار، إنها كائن حي يولد ويشبّ سريعاً ويموت ويُهال عليه التراب مثلما أهيلت على مومياء البوعزيزي. لا تزال النار عنصراً أساسياً في جحيمنا العصري أيضاً، مثلما كانت في أيام هيراقليط وأمبيدوقليس الذي أبطل العلم نظريته، فصانها الشعراء. مقصّات الرقابة لدى الجهاديين من نار، لقد سعّروا محرقتهم، وبالطبع لم يتحلّقوا حولها ليرقصوا أو يغنوا مثلما يفعل الأعداء المتاخمون، المجوس أو عَبَدَة النار، فُرساً أو أكراداً، في رأس السنة الجديدة مطلع الربيع. ليست هذه النار لذئب الفرزدق أو ديك الجن الحمصي أو لفراشات الشعراء الخائبين.
ضجّت الحداثة الشعرية بالمتناقضات والجمع بينها. صار إرميا نبيّاً حداثيّاً، وزخرت القصائد بالنبوءات حول نهاية العالم والعيش في الجحيم. تزامن صعود حزب البعث مع دخول أساطير البعث إلى قصائد الحداثة العربية، وكعلماء اللاهوت القدامى استخدم الشعراء أسطورة أدونيس وتموز أو العنقاء (أو طائر الفينيق لدى سعيد عقل)، وعادوا مراراً إلى قصص النبي يوسف، وبقيت في الظلّ قصص النبي إبراهيم الذي كانت النار عليه برداً وسلاماً. لم تدرج استعارة السكنى في النار، ولكن الرومانسيين في الأغاني والقصائد يعلمون أن قلوبهم الملتاعة لا تذيبها النيران، ولهذا آمنوا بمخلوق آخر هو السمندل الذي يعيش في النار، ولا حياة له خارجها.

المساهمون