في اقتصاد "المجتمع المدني"

في اقتصاد "المجتمع المدني"

11 يناير 2015
+ الخط -
في محاولة إحقاقِ تحوُّل سياسي -اجتماعي غير واضح المآلات وغامض الملامح، يأتي عادة إما بعد ثورات شعبية كما حصل في تونس ومصر وسورية أو نتيجة تدخّل خارجي مباشر كما حصل في ليبيا والعراق، لا تضمن القوى السياسية الدولية الكبرى ومراكز رأس المال العالميّة، صيغاً مضمونة للتفاهم والتحالف مع الجهاز السياسي المُفرَز بعد إتمام التغيير لاحقاً. وذلك في سياق الاتفاق على شكل العلاقات الاقتصادية الاجتماعية الجديدة في الداخل، وخريطة التحالفات السياسية في الخارج.
تنتقل إثر ذلك الفاعلية التأثيرية لقوى رأس المال وأباطرة السياسة من مستوى التفاهم المباشر مع الجهاز السياسي الموجود، إلى التغلغل في عمق المجتمع. تنزل الفاعلية إذاً من فوق إلى تحت، من السياسة إلى الاقتصاد.
ومداخل هذه القوى إلى صلب البنية المجتمعيَّة كثيرة ومتعددة في حالات التحول الديمقراطي العنيف، حيث ينهار كلّ شيء على كل شيء، وتضعف سلطة الدولة على عموم الجغرافيا وفي الأطراف بالخصوص، وتنهار الخدمات المعيشية الأساسيّة من أمن وكهرباء وماء وغذاء. ومن أهمّ هذه المداخل ما تسمّى بـ "منظّمات المجتمع المدني" أو "المنظمات غير الربحية".
إذ تحاول هذه المنظمات سد الفراغ الناتج عن غياب أشكال التنظيم والحل محلّ الدولة. وتقوم جهات التمويل العالمية بدعم مالي مُغدق وغير مشروط وهش الرقابة لهذه المنظمات، فتتشكل شبكة من العلاقات الاقتصادية المادية، تنتظم في نسيجها شرائح اجتماعية تتسمّك وترق حسب جديّة التمويل. وكل جهة تمويلية تمتلك كتلتها الاجتماعية المنتفعة من دورتها الاقتصاديَّة.
بعد سنوات من هذا التدفق وتشكيل دورات اقتصادية متينة، نحصل على مجتمع فيه سبيكة من العلاقات الاجتماعية الاقتصادية الطبقية، لا يستطيع أي نظام سياسي يأتي لاحقاً على الحكم، سوى أن يأخذها بعين الاعتبار. إذ سيراعي مصالحها أو سيطلب ولاءها، كون تلك المُعقدات من قطب اقتصادي (رأس مال اقتصادي تابع لجهة تمويلية لها أجندة سياسية خاصة) وقطب اجتماعي (شريحة اجتماعيَّة تعتمد دورتها الاقتصادية على رأس المال السابق) قادرة على إحداث الخلل في ميزان قوى السياسة الداخلي.
قامت الأنظمّة الاستبدادية بصياغة شبكة من العلاقات الاقتصادية- الاجتماعية تناسب ديمومتها وسلطتها ونفوذها وقوتها. الخطير الآن هو احتمال حصول العكس في المستقبل، أي أن يقوم النسيج الاجتماعي الاقتصادي المتشكل من أموال الجهات التمويلية الخارجية بصياغة نظام سياسي لا يؤثر على دورته الاقتصادية الخاصة، التي لن تتوافق بالضرورة والحال كذلك، مع الاقتصاد الوطني العام.
وجديرٌ بالذكر أن ذلك لا يعني أن كلّ الجهات التمويلية تمتلك بالضرورة أجندات سياسية خاصّة وأنانية، وبالتالي صياغة نظرية هي أشبه بنظرية المؤامرة، بل هي محاولة لإلقاء الضوء على خطر كثافة تكاثر منظّمات مجتمع المدني على مستقبل الاقتصاد الوطني.

المساهمون