جان جينيه أسير العشق

جان جينيه أسير العشق

14 ديسمبر 2014
صورة جان جينيه (Getty)
+ الخط -
أقف بمهابة أمام قبر هذا القديس كما يصفه جان بول سارتر في كتابه "القديس جينيه، والممثل الشهيد". القبر البسيط هنا هو الوحيد الذي يفتقر لصليب من حديد في المقبرة المسيحية الإسبانية المطلة على الأطلس في العرائش الواقعة جنوب مدينة طنجة. هنا في عرائش الشمال المغربي يرقد بهدوء صارخ كاتب المذكرات الآسرة "أسير عاشق". كتبها وتركها بدون أل التعريف كي لا تأسره أكثر مما أسرته في مطلع السبعينيات. كان هذا الكتاب هو المحطة الأدبية الرائعة والإنسانية الأخيرة لأشهر كتّاب فرنسا في القرن العشرين، جينيه، قبل أن ينزلق وحيداً في حجرة الحمام بعد أن أنهكه مرض السرطان حدّ الموت في إبريل/نيسان 1986.

عاش جينيه حياة مثيرة للجدل، صاخبة، وتعيسة، بدأها مُتخلى عنه في دار للرعاية الاجتماعية ثم راعياً للأبقار في طفولته بعد أن تبنته عائلة مزارعة، إلى مومس (مثليّ) ولص متشرد في فتوّته. واحدة من لصوصياته الشهيرة كانت سرقة الأعمال الكاملة لمارسيل بروست، وعوقب بسببها بثلاثة أشهر سجناً. كما سرق طبعة نادرة لديوان فرلين "حفلات ظريفة"، فدافع عنه أمام المحكمة جون كوكتو كأعظم كتاب فرنسا في ذلك العصر وأخلي سراحه على الفور.
دهشتنا بما كتبه جينيه في "أسير عاشق" وانحيازه التام لقضايا المقهورين والمنبوذين في العالم لا تكتمل دون أن نندهش أكثر عندما نقرأ كتابه "يوميات لصّ" والتي يعرّي نفسه فيها تماماً، باعتبارها وكتاباته الأخرى سلسلة مكملة لبعضها البعض في فهم كينونة هذا الكاتب المثير ولمس المبادئ الإنسانية التي اعتنقها في حياته.

في يوميات لصوصيته كان جينيه متمرداً ضد المركزية الغربية الاستعمارية، مناصراً حركة "بادر ماينهوف" اليسارية الألمانية، ومؤيدأ الثورة الجزائرية ضد فرنسا وحزب الفهود السود ضد البيض في أمريكا، وصادقاً بوفاء نادر للفدائيين الفلسطينيين، وحيث وثّق بصدق مؤثر مجزرة صبرا وشاتيلا، وظل دوماً عدواً لإسرائيل.

اتجه جينيه نحو الشرق الأوسط، وبقي في الأردن على وجه الخصوص في أوائل السبعينيات، وقد كانت وظيفته هناك "حالم داخل حلم"، حرّ التنقل بين مخيمات الفدائيين حيث منحته حركة فتح تصريح مرور إلى كافة قواعدها القتالية. تماهى جينيه طيلة هذه الفترة في المخيمات وجبال عجلون ونهر الأردن وتلال السلط، ملاحقاً "هالة الفدائي" ومحاولاً فهم حالة عشقه لهذا الكائن "الثورة" الذي ما برح ينهض رغم محاولات التصفية. كان جينيه "يكتشف نفسه باندهاش عبر هذه الرحلة، مدرباً نفسه على بناء الكلمات".

خلال تلك السنوات، طلب منه ياسر عرفات وآخرون أن يكتب، فكتب جينيه في مذكراته سيرورة المقاومة الفلسطينية، مقارناً إياها بعض الأحيان بثورة "الفهود السود" في أميركا، وتتبعها إلى الفصل المرير الذي عانته في الأردن بعد أن تخلت الأقطار العربية عنها وعزلتها. انطلق جينيه في هذا الكتاب بشكل بديع، محولاً نصه مساحة حرة لأصوات وشخصيات متعددة مستقلة، معتمداً تقنية "البوليفونية” للمنظر الروسي ميخائيل باختين، ومتأثراً بدستوفيسكي خلال قراءاته الأولى. يفصح لنا النص عن قناعات الكاتب الذاتية والتي تمثلت بمواقفه الحاسمة تجاه القضية الفلسطينية، كقضية "أزلية، قديمة، ومشاركة له في الجوهر".

يخطف مخيالنا إلى المساءات الدافئة التي جمعته والفدائيين الأشبال لنسمع نبراتهم الغنائية الباعثة على الجمال والحميمية. كانت ضخامة الحنجرة تدلل على نضج رجولتهم وكفاءتهم في حمل السلاح. سألهم جينيه: "عم تتحدثون تحديداً؟"، أجاب خالد أبو خالد: "عن الغرام طبعاً، وقليلاً من الثورة". أتاح لنا أن نتخيل أحلامهم، ملامحهم، السجائر التي يدخنونها، أحاديثهم، ابتكاراتهم، طعامهم، ملابسهم، وأسلحتهم، كتبهم، وشعاراتهم الثورية، و ... "برجوازيتهم" العابرة والمؤقتة إذا حصلوا على حمام منعش! لذلك نجد الفدائيين يلعبون في النص دور الشخصيات المستقلة والمتحررة من سلطة جينيه السردية، يتكلمون بصوتهم الفردي، بكلماتهم، ووعيهم المختلف، وبحقهم المتساوي في قضيتهم أمام العالم.

لا تكفي المرة الأولى لقراءة سيد الغواية. لقد سحرنا "الأسير العاشق"، وعن قناعة، بصدق محاولاته وفرادته واستثنائية رحلته إلى الأردن ووصف الفعل الفدائي الذي شكل غاية الرحلة، وكان قد عرف من خلاله عذوبة ألا يعود مقيماً في فرنسا. يقول محبّاً: "كان خنصر أصغر فدائي يشغل حيزاً أكبر من أوروبا بكاملها. وفرنسا ذكرى بعيدة وضامرة من صباي". بعد خمسة عشر عاماً من أزمنة العشق الكبرى ومناصرته حركة فتح، وكذلك انتقاده اللاذع لقيادتها، خرج جينيه بـ"أسير عاشق"، كإشارة على إيمانه الكليّ بصواب القضية، وليست عدالتها وحسب، ودليل على شغفه وإنسانيته التي ذهب بها وراء الأفق، ووثّق ما لم يوثقّه أحد.

*كاتبة فلسطينية

المساهمون