جيم

11 نوفمبر 2014
+ الخط -
كان عندي منذ عدّة سنوات صديقٌ يدعى جيم، وقد كان الأكثر حزنًا من بين أهل أميركا الشماليين الذين عرفتهم. لقد رأيتُ الكثير من الرجال المحبطين. لكنّ أحدًا لم يكنْ من بينهم حزينًا مثل جيم.

ذهب إلى البيرو مرّةً -لمدّة جاوزَتِ ستة أشهر فيما يبدو، لكن سرعان ما رأيته ثانيةً. اعتاد أولاد الشوارع المكسيكيين سؤالَه: "ممَّ يتألّف الشّعر، يا جيم؟". مصغيًا إليهم، سيحدّق جيم في السُحب، ومن ثمّ يبدأ بالتعداد؛ المفردات، البلاغة، البحث عن الحقيقة. الوحي. كما عندما تظهرُ لك العذراء في رؤيا.

قامَ بعمليات سلبٍ عديدةٍ في بنك أميركا المركزي، ما يبدو مفاجئاً، لأنّه كان ملّاحًا ومقاتلًا في فيتنام. لقد انتهى القتال، كانَ جيم يقول "أنا الآن شاعر، أبحثُ عمّا هو استثنائي، محاولًا التعبيرَ عنه بكلمات يومية، عادية". إذًا هل تظنّ أن ثمّة كلمات يومية عادية؟، أظنّ ذلك، كان جيم يقول. كانت زوجتُه شاعرةً مكسيكيةً، تهدّد بين الفينة والأخرى بهجره. أراني صورةً لها. لم تكن ذات جمالٍ مميّز. كانَ وجهها ينمّ عن معاناة، يجيشُ الغضبُ تحتها.

تخيّلتها في شقّة في سان فرنسيسكو أو في منزلٍ في لوس أنجلس، بنوافذَ مغلقة وستائرَ مفتوحة، جالسةً إلى طاولة، تأكلُ شرائح الخبز وحساء الخضار. أحبَّ جيم النساء ذوات البشرة الداكنة، على ما يبدو، نساء التاريخ السريّات، كانَ ليقول، بدون استرسال. أمّا أنا فأفضّل الشقراوات. رأيته مرّةً يشاهدُ أكلة النار في شارع في مدينة مكسيكو.

رأيته من الخلف ولم أحييه. كانَ واضحاً أنه جيم. قصّة الشَّعر الرديئة، القميصُ الأبيض المتَّسخ، والانحناءة كما لو أنّه لا يزال يحمل صُرَّته. بطريقةٍ ما، استحضرتْ رقبته، رقبته الحمراء، صورةَ الإعدام في الريف. الريفُ كما هو أو كما يجبُ أن يكون: براحٌ من الأرض البور مطموسًا في الغرفِ المجاورةِ ذات الجدران القرميدية، أو الملاجئ التي هربنا منها، واقفين هناك، منتظرينَ عودتنا. كان جيم يضعُ يديه في جيوبه. كانَ آكلُ النار يلوّح بشعلتِه ويضحكُ بعنف.

وجهُه المسوَّد كانَ ذا شباب دائم: ربمّا كان عمره خمسة وثلاثين عامًا أو ربما خمسة عشر. لم يكن يرتدي قميصًا وكانتْ ندبةٌ عمودية تمتدّ من سرّته إلى عظمِ القص. يملأ فمه بسائلٍ قابلٍ للاشتعال، ويبصق أفعى نارية طويلة. سيراقبه الناسُ في الشارع لبرهةٍ، معجبين بمهارته ويتابعون سيرَهم، ما عدا جيم، الذي ظلّ على حافّة الرصيف، ساكنًا تمامًا، كما لو أنه يتوقّع المزيدَ من آكل النار، أو كما لو أنّه رأى في ذلك الوجه الخالي من الألوان، سماتَ صديقٍ قديمٍ. راقبتُه مدّة طويلة. كنتُ في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة في ذلك الوقت، أؤمن أني خالدٌ.

لو كنتُ أدركُ أني لستُ كذلك، لسرتُ مبتعدًا. بعد مدّة تعبتُ من النظر إلى ظهر جيم وإلى تكشيرات آكل النار. فتقدّمتُ وناديتُ باسمه. يبدو أنّه لم يسمعني. عندما التفتَ، لاحظتُ أنّ وجهه مغطّى بالعَرق. بدا محمومًا. استغرقه قليلٌ من الوقت ليتعرّف إلي، حيّاني بإيماءةٍ وعاد إلى آكل النار. لاحظتُ وأنا بجانبه أنّه كان يبكي.

اكتشفتُ شيئًا يفاجئني الآن أكثر ممّا فاجأني وقتها: كانَ آكلُ النار يؤدّي عرضَه حصريّا لجيم، كما لو أنّ العابرين بتلك الناصية في مكسيكو لم يكونوا جميعًا موجودين ببساطة. كان اللهبُ يقع أحيانًا على أرض المكان الذي كنا نقفُ عليه. ماذا تنتظر؟ قلتُ، أترغبُ بأن تُشوى في الشارع؟ كانتْ ملاحظة حمقاء، قلتُها من دون تفكير، لكن بعدها خطر لي: أن هذا تمامًا ما ينتظره جيم.

أثّر فيه سحر مكسيكو، وها هو الآن ينظرُ مباشرةً في وجه شياطينه. لنخرج من هنا، قلت. سألته أيضًا إن كان منتشيًا أو يشعر بالإعياء. هزّ رأسه. كانَ آكل النار يحدّق بنا. ثمّ أخذ يقتربُ منا. أدركتُ بسرعة أن ليست تلك الرياح ما سيهبّ بوجهينا. لنذهب، قلتُ. انتزعتُ جيم بعيدًا من الحافّة المشؤومة لذلك الرصيف. ابتعدنا في شارع جانبي. وبعد مدّة افترقنا. راحَ كلّ في طريقه. ولم أره ثانيةً.


* ترجمة أماني لازار
المساهمون