من الأوّل، الوعي المزدوج

من الأوّل، الوعي المزدوج

05 مايو 2015
+ الخط -
إذا ما افترضنا جدلاً أن كلّ متلق هو ناقد بكيفية ما، فبماذا ينبغي أن "يتسلّح" القارئ - الناقد للثقافة؟ أسارع فأقول بأشياء كثيرة يمكن أن يكون أهمّها وعي مزدوج: أوّلاً، وعي إزاء ما ينطوي عليه الماضي من دلالات. وثانياً، وعي إزاء المواكبة وما تتطلّبه من تغيّر وتطوّر في امتلاك أدوات فهم الحاضر، وأكثر فأكثر في امتلاك أدوات استشراف المستقبل.
وفي مسيرة ثقافتنا العربية الطويلة، الكثير من النماذج التي تتوافر على مثل هذا القارئ - الناقد والمسلّحة بهكذا وعي، بعضها وإن احتكم إلى التاريخ لم ينحصر في شرنقته.
يحضرني من هذا البعض، مثلاً نموذج الناقد الراحل إحسان عباس (1920- 2003) الذي كانت دراسته للتاريخ معلَماً رئيساً في فهم منهجه النقدي على وجه العموم.
وقد ارتأى عباس في كلمات تقديم كتابه "بدر شاكر السياب" أن يسوّغ مبرّر هذا الاحتكام قائلاً: "أنا أعلم أن كثيراً من الناس يضيقون ذرعاً بالاحتكام المستمرّ إلى التاريخ، ولكن هؤلاء ينسون أن التاريخ صورة الفعل الإنساني والإرادة الإنسانية على الأرض، وأن دراسة الشعر على مجلى من الحقائق التاريخية لا تعني انتقاصاً من سماته الفنية، خصوصاً حين يتفق الدارس والقارئ على أن ذلك الشعر كان جزءاً من الحركة الكليّة في التطوّر الاجتماعي، بل كان عاملاً هاماً في تلك الحركة، ولم يكن كلّه تهويماً في عالم الأحلام الذاتية".
بيد أن ما يميّز ناقداً كعباس، أنه لم يفتقد في الوقت عينه إلى خصيصة التمرّد على العوامل التي تفضي به إلى الجمود أو إلى النظرة الأحادية، وذلك لناحية التجدّد المستمر من حيث مبنى منهجه ومعناه، والمرهون أكثر شيء بوعي الزمان الذي يستلزم المواكبة.
كما أنه أقام فيصلاً بين ضرورة هذا الوعي المزدوج لدى ممارسة النقد على وجه الخصوص، وبين عدم ضرورته القصوى لدى طرق أنواع كتابية أخرى كالسيرة مثلاً. ومن خلال سيرته الذاتية التي نشرها تحت عنوان "غُربة الراعي"، أشار إلى أنه ركّز نظرته في الماضي، وتحدّث إلى الماضي، وأصاخ السمع إلى الماضي، ولم يُعر المستقبل أي اهتمام، ولا سيما في عصر كثر فيه الحديث عن المستقبل، وعذره بهذا أنه يكتب "سيرة". والسيرة تعني قبل كلّ شيء حكاية الماضي على نحو ما، ثم أكّد أنه لا يحبّ أن يسابق الذين يتحدّثون عن مصلحة الأجيال المقبلة ويزايد عليهم، لأنه يعتقد أن الأجيال المقبلة ستدرك مصالحها ضمن ظروفها وبيئاتها، وأمّا هؤلاء الأوصياء على الأجيال المقبلة فهو ليس منهم في شيء. ناهيك عن أنه حين وجد أن حياته كانت تقرّرها الظروف المتغيرة يوماً بيوم أو عاماً بعام، بات يعتقد أنه ليس من حقّه أن يفرض مفهومات عصره على عصور تالية، ولا أن يرسم لها منهجاً، يعدّه غير صالح لها، قبل أن يرسمه على الورق. غير أنه سرعان ما أتبع ذلك بالقول: "هذا هو رأيي وأرجو أن أكون مخطئاً".
بطبيعة الحال هذا الكلام لا يعفي الجيل العربي الجديد، من أن يستوحي تجربة الجيل الذي سبقه. فهذا الجيل السابق حاول، وبغض النظر عن الحصيلة التي يعتبرها كثيرون متواضعة، فإن ما تركه من ميراث جديرٌ بالتأمّل والمراجعة لإدراك الأخطاء والنواقص وتلمّس سبيل تجاوزها. ولا نبالغ حين نقول إنه حتّى خيبات هذا الجيل تُعلّم الكثير من الدروس.
وعلى ذكر التاريخ، لا بُدّ من أن نتلمّس انتقالاً في أسلوب مقاربته على أيدي البعض- عادة ما يكون مموّهاً - من "حكاية التاريخ" إلى "تاريخ الحكاية" بغية خدمة أفكار مهيمنة أو مجهود برمجة الذاكرة وخصوصاً القومية، كما يشير مؤلف كتاب "أكاديمية الجهاد" حيال وضعيات راهنة.
هنا تُطرح أسئلة من قبيل: في المكان الذي بالوسع فيه مواجهة التصاوير الموجودة أصلاً - وهي دائماً موجودة أصلاً- كيف بالإمكان مواجهتها؟ كيف يواجهها الكتّاب/ الشعراء؟ كيف يواجهها المؤرخون؟ كيف يواجهها الصحافيون؟ كيف تواجهها الأحزاب السياسية؟
بكلمات أخرى، فإن المكان الذي ينبغي أن نخطو فيه، هو ليس ذلك المكان الذي يدور فيه جدلٌ بين "الموضوعية" وبين "الذاتية"، بل الطريق التي تحولت فيها "الذاتية" بمكرٍ متوارٍ إلى مسألة "موضوعية".
خلاصة القول، عندما تتبصّر الثقافة الماضي، على عيون المتلقين أن تبقى متيقظة عميقًا عميقًا داخل الظلام.

المساهمون