كلّ شيء قابل للتسليع؟

12 مايو 2015
+ الخط -
في واحدة من محاضراته الأخيرة في باريس، ركّز المفكر الفرنسي والباحث في الإعلام، ريجيس دوبريه على المفاجآت السلبية للعولمة، لو صحّ التعبير، في جعل عالمنا اليوم قاتمًا على هذا النحو غير المسبوق. إذ إن المشاكل والكوارث المنتشرة والمستمرّة في "أزرقنا البرتقالي" وفقًا لمجاز بول إيلوارالشهير، ناجمة برأيه في جزءٍ كبير منها عن "انهيار الحدود بين السياسي والديني"، حيث أدّى محو الحدود واختلاط الناس عبر الهجرة والتهجير بين الجنوب والشمال وكلّ الجهات إلى "خلق عالم القرن الخامس عشر في قلب عالم القرن الواحد والعشرين".
لم تكن محاضرة ريجيس دوبريه عن العولمة كما قد يتبادر إلى الذهن، بل كانت محاضرة ضمن إطار التفكير و"التأمّل في الإسلام السياسي". بيد أن دوبريه، ابتعد عن الانسياق وراء خطاب إعلامي رائج شرقًا وغربًا لا يرى مشاكل العالم إلا في الإسلام أو الإسلام السياسي.
إذ يبدو أن الخطاب الإعلامي المهيّمن، الذي لا يكفّ عن تركيز الضوء على ما كلّ ما يمت للإسلام بصلة، لم يخدع المختصّ والباحث بالإعلام، الذي رأى "الإسلام السياسي الشجرة المرئية في قلب غابة كوكبنا". فالأمر لا يمكن اختصاره بالإسلام السياسي ولا بدّ من توسيع المنظور، وقد عبّر بشكل أدقّ عن ذلك قائلًا : "أنتجت العولمة التقنية الاقتصادية، بلقنةً سياسية وثقافية".
ويظهر من الصعب ألا نلاحظ اليوم كيف دخل الدين الإسلامي إلى وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. فهو حاضرٌ في عناوين الصحف الكبرى، ونشرات الأخبار وغيرها، وتؤثّر أخباره في زيادة الإقبال على وسائل الإعلام ضمن دائرة مفرغة. لكن "صورته" هذه، تبدو بعيدة كلّ البعد عمّا كان عليه في القرن التاسع عشر مثلًا، أقلّه بالنسبة لنا نحن العرب.
ربّما لهذا ليس ثمّة من مبالغة في القول إن الطريقة التي يتعاطى بها الإعلام مع الدين الإسلامي، تعني في وجه من الوجوه، نجاح الإعلام في "تسليع" الدين. فقد غدا الدين السماوي، في نظر المفتونين بالعمل الإعلامي، أقرب إلى "السلعة"، التي تضمن لصاحبها الشهرة والرواج. الدين الإسلامي حاضرٌ في كثير من الكتب الغربية والعربية، وفي الصحافة أيضًا. ويمكن في هذا الصدّد التذكير بأثر "تسليعه" على نحوٍ سافر في "شارلي إيبدو"، التي ارتفعت مبيعات نسخها بعد ضائقة مالية معروفة، أو ربّما ذاك الخبر الخاصّ بـ "ملابس داعش"، يصلح لتمثيل ذلك.
لعلّ تلك العولمة بشكلها الذي يكاد يقتصر على الجانبين الاقتصادي والتقني، أثرّت بطريقة "غير متوقعة"، من حيث هي سعت وتسعى بالمبدأ، إلى "تسليع" كلّ شيء. أيكون كلّ شيء قابلًا للتسليع والتسويق، وكيف؟ وما الذي سيحدث لما هو غير قابل للدخول في هذه الدوامة، حيث غدا "كلّ مواطن مستهلكًا" في نظر الحكومات، وحلّت "الأرقام محلّ الكلمة" وفقًا لكلام دوبريه؟
قليلة هي المجالات التي نجت في الإفلات من قبضة العولمة الاقتصادية - التقنية، وإن كانت مقولة "تسليع الدين" غير مستساغة على أقلّ تقدير، فلإنها تشفّ عن تفريغ ما هو روحاني من جوهره ومضمونه، وتكشف هشاشة الفكرة أمام قوّة المال. بيد أن ذلك لا يغيّر من واقعنا، الذي يتميّز بغياب النقد والفكر والفلسفة أو تهميشها. تهميشٌ يعود في جزءٍ كبيرٍ منه إلى عدم قابليتها لـ "التسويق الجيد" المدرّ للمال. الأمر الذي يعني في كلام مستنتِج؛ إن الأفكار التي تروج وتنتشر، يجب أن تخضع لنقد حقيقي، وإلا فإنها قد تكون أداة بيد المتحكّمين بالمال. ما الذي بقي اليوم من "صدام الحضارات" لصموئيل هنتغتون؟.
لكن، لو غيرنا المنظور، وابتعدنا عن الدين، ذاهبين صوب الثقافة والفنون، لما تغيّرت الأمور كثيرًا؛ فـ "الأشكال" الجديدة التي ظهرت تحت اسم "الفنّ المعاصر"، واستندت في جزءٍ كبير منها على الطابع المفهومي للفن، مثل التجهيز والأداء والفيديو آرت وفنون الشارع وغيرها، كانت في أصلها أدنى إلى الردّ على الفكرة القائلة بـ "قابلية كلّ شيء" للتسليع، (من بين دوافع أخرى بالطبع)، بيد أنها، وعلى نحو "غير متوقع" غدت مستلبةً أمام المال، حدّ إن فنون الشارع خضعت بشكل شبه تام لذلك.
قابلية كلّ شيء للتسليع، ليست وليدة العولمة الاقتصادية التقنية وحدها، بل هي ناجمة في جزءٍ كبيرٍ منها عن الاستبداد، ليس فقط بمعناه العربي السياسي الذي نكاد نحفظه عن ظهر قلب، بل بمعنى السلطة بمختلف أنواعها التي تدّجن الثقافة عن قصد.
والربط بين الاثنين ؛ العولمة والسلطة يبيّن إلى أي حدّ، يتناغمان في "التسليع" عبر مدّ المال، لمن يروج ما يناسبهما من أفكار. بعينه النقدية وتجربته الغنية في الثقافة والسياسة، يكشف ضيف ملحق الثقافة الروائي والشاعر المغربي محمّد الأشعري بعضًا من ذاك "التسليع"، مدافعًا عن الثقافة الحديثة، وعن المثقف الذي همّشته و"هشّمته" السلطة. مع ذلك، قد يكون الشّعر من بين الفنون هو الأنقى والأبعد عن "التسليع" لحسن الحظّ، شيءٌ يبعث على الأمل، فهذا المقطع من إحدى قصائد الأشعري لا تنقصه دقّة التعبير وجماله :"وأنتِ سألتِ مرتاعةً/ لماذا تنبح الكلاب؟/ قلتُ لأن النجوم تضايقها/ قلتِ ربما تطارد أحداً/ أو ترى شخصاً يريد أن يقتلنا".
المساهمون