يافا تختزل صراع الشرق والغرب روائيّاً

10 يناير 2016
(عمّان ورام الله: دار الشّروق، 2016)
+ الخط -
للوهلة الأولى من بدء قراءة هذه الرواية، يشعر القارئ بفرح هائل للأجواء والمناخات الجميلة الساحرة التي تُشيعها، حيث يافا عروس البحر في غاية أناقتها وتحضُّرها وانطلاقتها وانفتاحها واحتضانها للتعدد والتنوع، وكأنّنا بالروائيّ الفلسطيني يحيى يخلف يريد تقديم هذه الصورة ناصعة الجمال والحميمية للمدينة، في مواجهة مع مقولة إن فلسطين قبل الاحتلال الصهيوني لها كانت "أرضاً بلا شعب"، وإن الاحتلال جاء ليحولها إلى جنة. لكنّ هذه الصورة سرعان ما تتلاشى أمام الكوارث التي ستحلّ بالمدينة في الفصول اللاحقة. فالرواية محكومة بثنائيات واضحة، إذ تلتقي فيها البطولة بالمأساة، لكن الأبرز فيها هو ثنائية الجمال مقابل القبح، والحب في مواجهة الموت.

في هذه الرواية، وبعيداً عن فضاءات رواياته السابقة، يبني المؤلف روايته/رحلته "راكبُ الرّيح"، انطلاقاً من مناخات يافا التاريخية، الواقعية والحلميّة، وصولاً إلى دمشق التاريخ والأساطير والكوابيس، والقرية التركيّة التي يقيم فيها الحكيم "باهر" الهنديّ، وذلك كله يجري في فضاءات تمزج ما بين الواقع والحلم والأساطير والخزعبلات والفلسفات، ويتداخل فيها الحضاريّ العميق مع الثقافيّ اليوميّ والسياسي العابر، ويعبّر الروائيّ عن ذلك من خلال "خلق" شخصيّة الفنّان يوسف آغا، من جوانبه الإنسانية والفنيّة الخارقة على غير صعيد.

تقدم الرواية مدينة يافا بوصفها تجسيداً لفلسطين بدءاً من عام 1795، في ظل الحكم العثماني لها، والصور والمشاهد المتولدة من هذا الحكم، وتنتهي بالغزو "البونابرتي" (نابليون بونابرت) وحصاره لمدينة عكا وانهيار قواته على أسوارها 1798- 1799، والجرائم الوحشية التي ارتكبتها هذه القوات من قتل وتدمير ونهب للممتلكات، في ظل مقاومة شرسة وبطولية من شعبها.

يوسف روح الشعب
أول ما ينبغي عمله في قراءة هذه الرواية، ومحاولة "تفكيك خطابها"، هو البحث عن خيوط تربط الخاص بالعام، من خلال ربط شخصية "البطل" يوسف بشخصية الشعب، هذا الربط الضروريّ لفهم القدرات الفذّة للجماعة، مع الاحتفاظ برؤية ما هو إنسانيّ لدى الفرد. وممّا يُهيّأ لي، بوصفي قارئا، أن شخصية يوسف تجتمع فيها "مواصفات" العام والخاص، بقدر ما يمتلك من سمات الفرديّ والجماعيّ، وهنا، في هذا المزيج، تكمن أسرار، ولا أقول سرّ قوّته، خصوصاً حين نطلع على الجوانب المختلفة لحياته، عاطفيا وثقافيّا وفنّيا وعمليا. ولهذا سنحاول عرض أبرز الملامح التي تجمع الشخصيتين الخاصة والعامة.

تبدأ السمات الخارقة المرتبطة بشخصية "بطل" الرواية يوسف من ملامح في طفولته وشبابه، في ما يتعلق بسلوكيات القوة الجسدية، ثم يبدأ التميّز على الصعيد الفني، ويتجسّد في الرسم والخط العربي، ويتكرّس في إقامته البازار المتخصص بالفنون. لكن الطاقة الجسدية هي ما سيجعل منه بطلاً شعبياً خارقاً للمألوف، وهذا الجانب يحتل حيّزاً واسعاً من شخصيته ومن الرواية. وفي سياق التعرف إليه، نتعرف على شيء من ملامح ذلك العصر، فنرى كيف "سمّوه في سِيَرهم وحكاياتهم يوسف اليافاوي، وبعضهم سمّاه يوسف الذي يركب الريح، أما الرواة وعازفو الرباب، فقد أطلقوا عليه اسم: راكب الريح. وفي قرى الخليل، أضافوا كلمة "صندلاوي"، فصار "راكب الريح صندلاوي"، أي راكب الريح جنّابي، وهو يضع رجلاً فوق أخرى، دلالة على أنّه في ذروة مجده "فوق الريح".

أما مراسم تكريس صورة هذا "البطل"، فهي تبدأ من حادثتَي مواجهة مع الجندرمة، الأولى حين داهموا البازار لتفتيشه، وحدث الصدام بينه وبينهم حين اكتشفوا رسمة "الأندروميدا" بعريها، وكانت المواجهة الأولى بالكلام "كيف لمَن يرسم صورة السلطان الأعظم وحوت النبي يونس بهذه الحِرفية والروعة، كيف له أن يرسم مثل هذا الوجه الذي يثير الفتنة والغرائز؟"، ثم يعلنون عن هويّتهم "نحن نحرص على الأمن وعلى حماية الأخلاق الحميدة"، ويجيء ردّ يوسف على الضابط "عليّ أن أقول لك إنّك تتحدث مع واحد من أبناء يافا، يافاوي معجون برملها ومغسول ببحرها ومترعرع تحت شمسها. فتح عينيه على نورها. رضع قِيَمها وشرب سجاياها".

هذه المواجهة الكلامية التي تنتهي بالتفاف "الشارع" اليافاويّ حول يوسف، حيث "الناس يجدون الفرصة للتعبير عن سخطهم على هؤلاء الذين يحصلون منهم الضرائب بالكرابيج والعصي"، تتبعها مواجهة ثانية ولكن دامية، يخوضها يوسف الذي سيقوم بدور هرقل في مواجهة الجندرمة والانكشاريين الذين أحرقوا البازار، و"يقاتلون ضد الإصلاح"، ويقضي بمفرده على القوة المعتدية، وحين يسألونه عن سر هذه القوة يقول "لم أقاتلهم أنا، وإنما قاتلهم جنّي يتزمل في ثيابي، يعيش معي، ينام ويستيقظ عندما تثيرني الشهوة، أو يزلزلني الغضب".

وفي إحدى الفقرات، ثمة تصوير سينمائيّ لمشهد المواجهة "جمّع نفسه وانتتر. طار في الهواء وسقط فوق رؤوسهم، وتحولت أذرعه إلى سيوف، وأرجله إلى خناجر. وأعمل فيهم؛ أوسعهم ضربًا حتى طحنهم كما يطحن حجر الرحى حبات القمح، ومن ابتعد ولّى هاربًا، ونجا تاركًا طبنجته وسلاحه الأبيض". وبعدها يتنادى الشبان في ثورة الغضب للزحف نحو قصر الوالي.

المواجهة الثالثة التي ترسّخ قوّة يوسف (الشعب)، هي التي تتم مع الفرنسيين في أثناء حصارهم لمدينة عكّا، وبالأحرى اجتياحهم لفلسطين ضمن حملة بونابرت الشهيرة على المنطقة، الحملة التي لا يظهر منها في هذه الرواية سوى وجهها الاستعماريّ الوحشيّ، وبعيداً عن ذلك الوجه "الحضاريّ" الذي ألبسه لها المؤرّخون والدارسون وبعض الروائيين حتى، والمتمثل في جلب العلم والتعليم والطباعة وما إلى ذلك من شؤون الحضارة الحديثة التي رافقت الحملة، وكانت من توابعها، بما يخدم الغزو نفسه وليس لخدمة البلاد المستهدفة بالغزو.

يصوّر يحيى يخلف هذا العدوان الوحشيّ على يافا (فلسطين) على نحو غير مسبوق روائياً، وفي المقابل فهو يقدم صوراً غير مسبوقة من المقاومة، يجري تتويجها في مواجهة يوسف للفرنسيين في عكا، حتى انسحابهم، بعد دمار شامل ليافا، ومشهد يعبر عن النهاية المأساوية لها ولسكّانها، في ما يشبه التصوير السينمائي للجثث والحرائق والدمار. لكن الروائيّ يأبى إلا أن ينهي روايته بمشروع تبدو فيه يافا في آخر أيام الربيع، وقد عاد المهجّرون من أبنائها إليها، ودارت حركة الحياة "رحل الحاكم الفرنسي، ورحل معه الوباء (الطاعون). بسط حاكم عكا نفوذه على يافا، وأرسل السفن التي تحمل الأغذية والمساعدات، وأمر بتنظيف الشاطئ، ودفن القتلى. تحوّلت المدينة إلى ورشة إصلاح وترميم".

قراءات الرواية وأسئلتها
كثيرة هي الأسئلة التي يمكن أن يطرحها قارئ الرواية على نفسه، وربّما كان أوّلها هو ما يتعلّق بشخصيّة "البطل"، ومدى واقعيّتها، لجهة ما تتميّز به من سمات تضعه في مصاف "الخوارق"، من حيث اجتماع الجمال مع الطاقة الجسدية والروحانية الخارجة عن الطبيعة مع القدرات الفنية العالية التي يتمتع بها. هذه الصفات تجعل منه بطلاً أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع، خصوصاً أن المؤلف استطاع، وبقدر من المبالغات، المقبولة على الصعيد الفني غالبا، أن يصنع منه معجزة مدينة يافا وفلسطين عموماً، فمن أين جاء بهذه الشخصية؟ وما وظيفتها، ونحن نرى قدرتها على الطيران ومصارعة المئات وقتلهم، حتى لتبدو قوتها بديلاً لقوة الشعب؟

ما يطرح هذا السؤال أساساً، وبعيداً عن مألوف القراءة الأدبية فقط، هو واقعيّة السرد في غالبية فصول الرواية، ثلاثة وثلاثون فصلاً، واستناد هذا السرد إلى مادة تاريخية، وربما إلى وثائق لا يبرزها المؤلف، لبناء عوالم الرواية، وهي عوالم مشغولة بنفَس روائي كلاسيكي حديث، وبلغة مطعّمة بمزيج من الشاعرية والرومانسية والمأساويّة معاً، في بناء شخوص الرواية التي يختلط فيها الواقعي والمتخيّل والحلميّ في بناء الحوادث والشخوص، ما يجعلنا نتساءل عن مرجعية هذه الشخصية، وإذا ما كانت هي صورة من صور التعبير عن طاقة الشعب، وقدرته على المقاومة والإبداع الفني والحضاري الشامل في آن؟ ربّما كان يمثّل الأمرَين معاً.

قد يكون هذا أحد مبررات خلق شخصية "خرافية" لمقاومة صور التخلف والجهل والعدوان الخارجي مجتمعة، وهو ما يجعل هذه الشخصية تتنقل بين فلسطين والشام وتركيا، وتلتقي بشخوص يمثلون ثقافات وحضارات مختلفة، من أجل بلورة "رسالة حضارية" تجمع أتباع الأديان والثقافات، حول مفاهيم أساسية مثل السلام والمحبة والتعايش بين الشعوب عموماً، أو بين الشرق والغرب، خصوصاً في أجواء الغزو الغربي لهذا الشرق متمثلاً في حملة نابليون بونابرت، ومحاولة خلق تقارب بين ما دعت إليه الثورة الفرنسية، وما يحتاج الشرق وشعوبه من حرية وكرامة واستقلال. هذه الرسالة ستأتي، في نهاية الرواية، في كتاب من الحكيم الهندي، بخطوط الفنان يوسف آغا، ويسعى الحكيم لإيصالها إلى بونابرت.

إلى ذلك، ثمة سؤال كبير تعالجه الرواية، من خلال شخوص تتعالق مع شخصية يوسف، حول المجتمع الفلسطيني، ممثلاً في يافا، في نهايات القرن الثامن عشر، وما ينطوي عليه من هموم وقضايا إنسانية، اجتماعية واقتصادية وثقافية، حيث نحن في مجتمع متعدد الشرائح والطبقات، لكن الرواية تعتني بنماذج من خارج العرب، وتبرز في الواجهة قضية الصراع بين المجتمع وبين قوة "الجندرمة"، صراع يطرح قوة الجماعات الدينية التي تزعم حماية المجتمع من انهيار الأخلاق وشيوع الفساد، وتأثيرها في الحياة بجوانبها المختلفة خصوصاً الثقافة والفن، وهي قوة خارج سيطرة الوالي، وتفعل ما تريد.

ويرتبط بهذا الوضع، ما يقوم به الإنكشاريون من ممارسات تشعل الفتن في أرجاء الدولة العثمانية، بهدف منع الإصلاحات التي يجريها السلطان سليم الثالث، بمساعدة قائد الجيش القبودان كوشك حسين باشا الذي وضع نظامًا عصريًّا للجيش على النظم الأوروبية، فنرى في المشهد الروائي التحالفات التي لا تخلو من إسقاطات شبه صريحة على الزمن الراهن. هنا نجد الوالي يتشاور مع الوجهاء وممثلي الأئمة والمشايخ والكنائس من أجل وأد فتنة ما، ووضع حد لعسكر الإنكشارية الغرباء الذين جاءوا من خارج المدينة (يافا)، هؤلاء العسكر الذين يثورون على السلطان الذي سئم من دورهم، بل من مجرد وجودهم، فنراهم يتحالفون مع فقهاء متشددين يصدرون فتاوى تحرّم الزيّ العسكري الجديد، كونه مستوردًا من الغرب، ويحرّمون كل شيء، ويكفّرون كل ما يخالف الشريعة كما يرونها.

(كاتب وشاعر من الأردن)
المكتبات الإسرائيلية... نهب التراث والهوية الفلسطينية

المساهمون