من هم قتلة الإبداع؟

09 نوفمبر 2015
(القاهرة: مؤسسة هنداوي للثقافة والتعليم، 2015)
+ الخط -
في خطبته الثورية الشهيرة (... لديّ حلم)؛ حدَّد مارتن لوثر كينج رؤيته للمستقبل من خلال تجسيد موهبة التفكير الإبداعي، وقدرتها على خلق الدافع للتغيير. فمن دون الشرارة الإبداعية؛ ستكون حياتنا ووجودنا بلا معنى حقيقي. فالتفكير الإبداعي ضروريٌّ لتطور الجنس البشري واستمرار الحياة لما هو أسمى من مجرد البقاء المادي، فهو لا يمكِّننا من التعامل بكفاءة مع المشكلات الحالية فحسب، بل يوجهنا إلى توقُّع المشكلات المحتملة والتوصل إلى حلول مُثْلَى.
وبالرغم من تلك الأهمية؛ فإن الإبداع يُقوَّض -دون قصد- كلَّ يوم في هيئات التعليم وفي بيئات العمل التي تأسست بغرض تحسين مستويات العمل، بحجة تنسيق الأعمال وتنمية الطاقة الإنتاجية والسيطرة على المؤسسات.

وبالطبع فإن المديرين لا يُتوقع منهم تجاهل ذلك، لكنهم في سعيهم لتلبية هذه الضرورات يُصمِّمون نُظُمًا تَسْحَقُ الإبداع بصورة منهجية. فتنطبع الآلية على أداء المنتظمين في تلك المؤسسات، وهو ما يشرحه أحد الرؤساء التنفيذيين لمؤسسة مالية قائلًا: إذا "طلبتُ من أعضاء فريقي تسلُّق ذلك الجبل فإنهم رائعون، أما إذا سألتهم أن يختاروا الجبل ليتسلقوه فسوف يحدقون بي تحديقًا"!

صحيح أنّ كثيراً من رواد الأعمال يبدؤون مشروعاتهم الناجحة بأفكار جديدة ومبتكرة؛ لكن الذين يُديرون مؤسساتهم في نهاية المطاف يتجهون لتأسيس أنظمة وهياكل تكفل الاستقرار، وغالبًا ما تتعارض هذه العملية مع الحاجة إلى التفكير الإبداعي.

في كتابهما (من قتل الإبداع؟!) يلفت المؤلفان (الزوجان) أندرو جرانت وجايا جرانت إلى أن البراءة الإبداعية التي كانت تعرفنا وتميِّزنا في صغرنا تاهت وسط السعي لتحقيق الأهداف الشخصية أو المؤسسية. ويبدو أننا نتحول إلى كائنات من الموتى الأحياء بلا مخيلة.

يرى المؤلفان أن قتل الإبداع جريمة في حق الإنسانية، لذا تعاملا معها من خلال فصول الكتاب التسعة كأنهما محققان قضائيان. ويقع عملهما في جزئين أساسيين، أولهما يحاول الإجابة عن السؤال الأساس: من قتل الإبداع؟ أما الجزء الثاني؛ فيبحر في آخر الأبحاث المثيرة من أجل استكشاف كيفية اكتساب مهارة التفكير الإبداعي.

لماذا يحدث ذلك؟
من ناحية القيمة، تكشف بعض الدراسات أن (الإبداع) يصنف على أنه أكثر خصال القيادة أهمية، بنسبة 60%، وأنه أكثر أهمية حتى من (النزاهة) التي تبلغ نسبة أهميتها 52%.

لكن من ناحية النمو، فيقال: إن مفتاح الإبداع هو الحفاظ على التخيُّل الطفولي الحر وتغذيته بالمعرفة بدلًا من عملية صبّ المعرفة في العقول صباً. ولذا تشير العديد من الأبحاث إلى أن متوسط مستوى الذكاء يرتفع مع كل جيل، بينما بقي متوسط مستوى الإبداع راكدًا، فيصبح الأطفال أقل إبداعًا مع نموِّهم، فالبراءة الإبداعية تتعرض تدريجيٍّا للدهس والخنق والاعتداء المباشر في جميع مجالات الحياة وفي كافة أنحاء العالم بلا استثناء.

إذن لماذا يحدث ذلك؟! من الواضح أن هناك نوعًا من التدخل السلبي، ومن المؤسف أن مؤسسة التعليم، وهي أهم هيكل ينبغي عليه أن يشجِّع على الإبداع ويرعاه؛ هي أول المتسببين في انخفاضه. أقدَمَ المؤلفان على إجراء مقابلات مع الأطفال في سياق المدرسة لمحاولة فهم ما يحدث للأولاد حينما ينخرطون في نظام التعليم.

ويؤمن كثيرون أنهم كانوا يتحلون بروح الإبداع في صغرهم، لكن شيئاً فشيئاً بدأت هذه الروح في الذوبان، وحين يرشد الإنسان وينضم إلى مؤسسة ما، فإنما يفرض عليه تحقيق أهداف معينة في ظل نظام معين، يقوم بالتدريب عليه لإجادته.

في الحقيقة لا يدرك كثيرون أن التدريب لا يساوي دائمًا التعليم. فالتدريب يدور حول تنمية مجموعة مهارات محددة ونقل المعارف والحقائق على أمل أن يستفيد العاملون من هذه المعلومات عند الضرورة. أما التعليم، فيدور حول تنمية المهارات اللازمة للتعلم والبحث المستمرين؛ أي إنه في نهاية المطاف يُعنى بتعلم كيفية التفكير بإبداع. وربما علينا أن نتدارك أوجه القصور في كثير من الأنظمة الحالية التي تعتمد على (بنك المعرفة)، وأن نفكر في طريقة لإدخال عمليات تعليمية فعلية في مؤسساتنا بدلًا منها.

يواجه المتدربون البالغون صعوبة في الإتيان بأفكار جديدة، وعندما ينتهي المطاف بهؤلاء في مناصب إدارية، فسيكون للخلاف الذي ينشأ بسبب رؤيتهم لطريقة تسيير الأمور ونظرتهم للآخرين آثار بعيدة المدى، وقد يؤدي إلى توقف نمو الشركة تدريجيّاً.

يذهب الكتاب أيضاً إلى أن هناك عدة أنماط مسؤولة عن كبت الإبداع، تتجسد جميعاً في القادة السيكوباتيين الذين يظهرون في المؤسسات التعليمية أو قطاع الأعمال بصورة طبيعية بينما هم في حقيقة الأمر مرضى نفسيون، يقومون عمداً بقتل الإبداع عبر أربع مراحل، هي القمع والتقييد والتدهور والتدمير!

أما أكثر المشتبه بهم في تنفيذ تلك المراحلة القاتلة فهي، الأنظمة القمعية، البيروقراطية، القيادة المتنمرة، عائلة الخوف (كالخوف من الفشل، الإحباط، المجازفة، المجهول...)، الإجهاد المفرط، اللامبالاة، تعدد المهام وإدمان التكنولوجيا، المعلومات المتحيزة، ملازمة الأشخاص المتشابهين فكرياً، والافتقار إلى التنوع... وغيرها.

الحظ وثمرة الإبداع
يكشف الكتاب من خلال مراجعة عشرات الحالات أن ثمرة الإبداع لابد أن تأتي للمجتهد، وكما يقال: الحظ يواتي الذهن المستعد. وهم يدللون على ذلك بالعديد من الأمثلة الواقعية التاريخية، ومنها وقائع غريبة جداً.

مثلاً، في عام 1675، أقنع ألماني يسمى (هينينج براند) نفسه بإمكانية إنتاج الذهب من بول الإنسان بعد تقطيره. وكان هينينج في كل ليلة يجمع بوله في دلو حتى خزَّن خمسين دلوًا ممتلئة ببوله في قبوه على مدى أشهر. وبعد فترة من الزمن، بدأت المادة تتوهَّج وفور تعرضها للهواء الطلق اشتعلت فيها النيران، وقد عُرفت هذه المادة فيما بعد بالفوسفور.

وفي النهاية، صار الفوسفور يُستخدم لأغراض متعددة ابتداءً من السماد والمواد المتفجرة وانتهاءً بمعجون الأسنان والمنظفات. كما تطورت عمليات إنتاج الفوسفور إلى أشكال أكثر كفاءة! وهذه القصة توضح الدور الذي يلعبه الحظ الذي هو وليد الإصرار في خلق الإبداع.

تساؤل مهم أيضاً يطرح نفسه هو: هل يولَد العباقرة المبدعون أم يُصنعون؟ والإجابة البسيطة هي أن التنمية الإبداعية تتطلَّب قدرًا صغيرًا من الاثنين معًا، فهي تتطلب شرارة إبداعية أو على الأقل رغبة في التعلم وممارسة الأساليب الإبداعية، لكنها أيضًا تتطلب عادةً الكثير من المثابرة العنيدة من أجل التوصل إلى نجاح إبداعي حقيقي.

فليس بالحظ وحده ينجح الفرد في تنمية الأفكار الإبداعية واتخاذ القرارات الإبداعية، فالحظ لا يواتي دائماً إلا المجتهدين، وقد يستفيد الأحمق الوفير الحظ من الفوز باليانصيب مرة واحدة، لكن دعه يحاول أن يعيد الكَرَّة مرارًا في جميع الظروف؛ فإنه لن يتحصل على شيء ذي بال!

عملية الإنقاذ
يحتاج إنعاش الإبداع إلى دراسة ثلاثة عوامل: إنقاذ التفكير الإبداعي الفردي (الضحية الأولى). ثم إيجاد حلول جماعية (قناة الإنعاش). ثم تأسيس أنظمة ابتكارية.

وبدلًا من اقتصار عملية الإنقاذ على الإبداع وحده (وهو القدرة على استخدام الخيال للتوصل إلى أفكار أو أشياء جديدة ومبتكرة)، علينا اتخاذ خطوة أخرى بإحياء التفكير الإبداعي خلال تقديم استراتيجيات للنمو المتواصل. والحل الإبداعي للمشكلات هو عملية ابتكار حل لمسألة أو مشكلة أو فرصة أو تحدٍّ، وهو النتيجة الطبيعية لهذا النوع من التفكير.

ونظرًا لأن عمليتي التفكير الإبداعي وحل المشكلات؛ عمليتان تركِّزان على النتائج، فإنهما ليستا مجرد تفكير متأنٍّ دون فعل، بل عمليتان منتِجتان. فالابتكار هو التطبيق العملي لعملية التفكير الإبداعي. لكن المشكلة هنا هي أن حل المسائل في الواجبات المدرسية أو تذكُّر المعلومات في تقييمات التدريبات لا يشمل عادةً الحل الإبداعي للمشكلات؛ لأن هذه المشكلات عادةً ما يكون لها حلول معروفة، لكن للأسف حتى الآن لا تزال هذه هي الطريقة نفسها التي نحاول بها إحياء التفكير الإبداعي.

ثمة مجموعة من الإستراتيجات وضعها المؤلفان لإنقاذ الإبداع، وقد دعما تلك الإستراتيجيات بدراسات علمية وأبحاث ميدانية، وهي التي رمزوا إليها في مجموعة عناوين هي: غرس الفضول، تقبل الغموض، إطلاق العنان للخيال، استخدام شقي المخ، إعادة صياغة المفاهيم الشائعة، استكشاف مسارات مختلفة، تبني التفاؤل.

وإجمالاً يجيب هذا القسم من الكتاب على تساؤل مهم: هل يمكن تعليم التفكير الإبداعي؟ وهو ما يختصره أحد علماء الأعصاب بقوله إن نسبة 40٪ تقريبًا من إبداعنا تُتوارث من الجينات 60٪ منها تأتي نتيجة التأثيرات البيئية. فجميع الناس يتمتعون بالقدرة على التفكير الإبداعي الذي يتأثر بتفاعلاتهم مع البيئة. وحتى إن لم تُحفَّز هذه القدرة في سن مبكرة، فإنها تعاود الظهور في وقت لاحق في الحياة. وإذا وصل المخ إلى أعلى مستويات الاسترخاء وأخذ في التفكير في احتمالات متعددة، فعندئذ تكون عملية التفكير الإبداعي المتقدم ممكنة. وهي حقائق علمية يمكن الاستفادة منها عبر إعادة تأهيل العقل، وتدريبه على الابتكار، وتوفير البيئات المناسبة، ومواجهة المثبطات الإبداعية المختلفة ومقاومتها.

إن النظام الصارم الذي تفرضه الحياة المنتظمة العملية، المطالب والتكاليف، يعد عنصراً أساسياً في إبطاء العمليات العقلية الجديدة وإهدار طاقة الدماغ، هذا النظام الصارم قد يتمثل في النظام التعليمي التقليدي أو في نظام مؤسسات العمل الإنتاجية. ولذا يكون التعرض لخبرات جديدة ومفاجئة من أسباب النمو الإبداعي. مثلاً، أظهرت الأبحاث أن الأشخاص الذين سافروا وعاشوا خارج البلاد أكثر إبداعًا من أولئك الذين لم يعيشوا في الخارج، وذلك عبر عدد من المعايير المختلفة، مثل معايير التبصُّر وتداعي الأفكار وتوليدها.

وهذه النتيجة تكشف عن أهمية التعرُّض لمجموعة كبيرة من المعلومات والأفكار على مدى حياتنا. فإذا لم نَلْتَق بأفكار متنوعة وأناس مختلفين في حياتنا، فسنبقى في حصانة من الحاجة للتفكير بإبداع. وكلما تقدَّمت بنا السن، نستمر في عزل أنفسنا عن الأفكار الجديدة. ولكي نشعر بالأمان، نتجمَّع حول أناس يشبهوننا فكريّاً، وهو ما يزيد من عزلتنا عن التجارب الجديدة.


(كاتب مصري)
المساهمون