تلك العتمة الباهرة... رحلة في عالم السجون المغربية

تلك العتمة الباهرة... رحلة في عالم السجون المغربية

11 أكتوبر 2015
(بيروت: المركز الثقافي العربي، 2015)
+ الخط -
"تزمامارت"، تلك الواقعة بين الرشيدية وريش على خارطة المغرب، اسم يبعث على الشؤم وعلى القروح وعلى طائر الخبل الذي يبدأ بزعيقه قبل الموت بخمسة عشر يوما. هذا السجن السري الذي أنشئ في عهد الراحل الحسن الثاني لمعارضيه لم نكن لنعرف أهوال حكاياته إلّا من روايات أدب السجون المغربية التي وثقت سنوات الرصاص والانقلابين العسكريين، الصخيرات 1971، وأوفقير 1972.

من تلك الروايات، كانت "تلك العتمة الباهرة" للروائي المغربي الطاهر بنجلون التي عرفت طريقها إلى العربية عن "دار الساقي" ثم نسخة جديدة عن "المركز الثقافي العربي" 2015. ورغم أن الكاتب تعرض شخصيا لعاصفة من الهجوم والانتقادات اللاذعة من قبل سجناء تزمامارت أنفسهم على أنه من"راكبي الموجة" والساعين وراء الشهرة، حيث إنه لم ينبس بنبت شفة ولم يدافع عنهم طوال سنوات غيابهم، إلّا أنه لا يمكن إقصاء دور الرواية في تلخيصها لتجربة إنسانية لا يمكن الاستهانة بها، وقد وظف بنجلون من أجلها لغة شعرية وصورا مجازية واستعارية خاصة ومكثفة مكنته من صقل آلام السجين عزيز بنبين بشكل يليق بشهادة السجين.

ومن أجل ذلك، بثّ فيها نفسا لغويا عميقا، فجعلت القارئ متورطا في ثنايا أحداثها، مستغرقا ومتأملا ومتخيلا وحتى منصتا إلى أحاديث عزيز مع رفاقه تارة، وإلى صلواته وتلاواته تارة أخرى.

فقبل العاشر من تموز 1971، خطط الكوموندو أعبابو إلى جانب محمد المدبوح من مدرسة "أهرمومو" لانقلاب عسكري على الحسن الثاني. في الأسبوع الأول من شهر تموز/ يوليو كان الحسن الثاني يحتفل بعيد ميلاده في القصر الملكي بمدينة الصخيرات، حيث فوجئ الحضور بفوجين من جنود "أهرمومو" يدخلان القصر ويطلقان الرصاص، وسادت حالة من الفوضى والتشويش إلّا أن محاولة الانقلاب فشلت وترتب عليها إعدامات واعتقالات وتصفية في عين المكان.

تحولت تلك الحفلة إلى عتمة ظلت جاثمة في أقبية سجن تزمامارت لمدة ثمانية عشر عاما، تحللت فيها أجساد بزنازين طولها ثلاثة أمتار وعرضها متر ونصف. فثمة معاناة كبيرة تصفها الرواية على لسان عزيز بنبين، أحد المتورطين في الانقلاب والناجي بأعجوبة من الاحتضار الطويل في السجن. وتحولت شهادته إلى جانب شهادات آخرين بعد المصالحة السياسية التي بادر بها النظام الملكي بعهد محمد السادس إلى روايات صنفت تحت مسمّى أدب السجون، بعضها أخذ الطابع الشخصي السردي أو السيرة الذاتية مثل "تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم" لمحمد الرايس و "تزمامارت، الزنزانة رقم 10" لأحمد المرزوقي. وبعضها طابعا روائيا ساعد في توثيق أهوال تزمامارت كما نجد في "تلك العتمة الباهرة" لبنجلون.

قسّم الكاتب بنجلون الرواية إلى أقسام، نقلت لنا مراحل السجن بتطوراتها وتعقداتها، وتمكن ببراعة أن يسرد علينا أياما وليالي متشابهات بعناصر تشويقية، وكلّنا أمل بصلوات عزيز أن يرى النور في نهاية المطاف.

تعرض السجناء للموت البطيء وبالتدريج، كان الرقم 12 أول من ضرب رأسه بالحائط حتى توفي بعد مرور سبعة وأربعين يوما على تواجدهم هناك. وبأشكال أكثر إيلاما كالذي تفشت فيه الغرغرينا أو الذي أكلته العقارب أو السجين الذي كان يطحن الخبز مع بيوض الصراصير قضى 23 سجينا حتفهم في تزمامارت. كان للموت رائحة ممزوجة من الماء الأجاج والخل والقيح، مزيج جاف وحاد لطالما رافقه صياح طير الخبل. لم يكفِ هذا الإهمال، بل دفن السجناء برش الكلس الحارق فوق جثثهم محواً لآثار وجودهم بالمعتقل.

أتقن بنجلون بأدواته الروائية نصّا بديعا نقل لنا صراعات عزيز المريرة الذهنية والروحية بكامل حذافيرها كأنها صور فوتوغرافية باللونين الأبيض والأسود دلالة على قذارة المرحلة.

هبتّ رياح التغيير عندما هرّب الرقيب مفاضل ورقة وقلما بعد سبعة عشر عاما إلى المعتقلين.
فوصلت أخبار احتضارهم إلى مجموعة من الأهالي وكريستين، المرأة غير الاعتيادية التي استطاعت أن تلفّ الرأي العام والصحافة حول قضيتهم، فشكلت ضغطا على السلطات بالرباط، وأطلقت سراح سليم (عزيز) وعشّار، وعمر وعباس وواكرين، الخمسة المتبقين في الجناح (ب) في أيلول 1991 وهدمت المعتقل واستبدلت المكان باسم "بتلات الورود".

في التاسع والعشرين من تشرين الأول عاد عزيز لعائلته تالفا من الرحلة. آثار التعذيب النفسي الطويل نخرت روحه حتى أصبح كالهلام، فكان يمتنع عن الإدلاء بالكلام والمشاركة بالحياة الاجتماعية، ورغم بقائه ثلاثة شهور تحت الرعاية الطبية، لكنه عاد مستلقيا بشاحنة إلى عائلته بحيث لم يقوَ على المشي.

لم تكن تلك الرواية لتبهرنا نحن كقراء، بقدر ما جاء انبهار عزيز تجاه نفسه، تجاه الصبر وبحثه عن الممكنات في المستحيلات، فوجد أن الخيوط الرفيعة إن تقطعت ستنعدم الحياة، فحافظ عليها لتخرجه باهرا ومبهرا من عتمته، رمزاً لها.

(صحافية فلسطينية)

المساهمون