لكن أيّ اتفاقيات؟

لكن أيّ اتفاقيات؟

25 اغسطس 2019
+ الخط -
لا شك بأنّ سؤال الجدية هو الأكثر اهتماماً وشيوعاً في ما يخص قرار السلطة الفلسطينية، الخاص بوقف العمل بالاتفاقيات مع إسرائيل، إلا أنني أعتقد أن ثمة معطىً آخر لا يقل أهمية عن الجدّية، يتعلق بطبيعة الاتفاقيات "المجحفة" التي تريد السلطة وقف العمل بها لكونها تدينها من حيث المبدأ لجهة الموافقة عليها أصلاً، ناهيك عن السكوت عن الالتزام والعمل بها لأكثر من عقدين.

بداية ثمة أمر ملفت ومهم جداً لم ينل حظه من الاهتمام، يتعلق بعدم إشارة السلطة أو حتى التفكير في التنصل من اتفاق أوسلو نفسه، بينما تكتفي بالحديث عن وقف العمل بالاتفاقيات السياسية الاقتصادية الأمنية المنبثقة عنه. هي تعي طبعاً أنها أسست بناءً على الاتفاق وتكتسب شرعيتها الدولية من خلاله، تعرف كذلك أن الظروف غير مؤاتية، ناهيك عن عدم امتلاكها تصور خطة أو استراتيجية خروج وطنية شاملة واقعية وقابلة للنجاح. هنا يمكن الإشارة فقط إلى حدث مهم جرى عام 2012 بعد رفع مكانة فلسطين في الأمم المتحدة إلى دولة بصفة مراقب، حيث فكرت قيادة السلطة في تغيير عنوان ومرجعية جواز السفر الصادر عنها ليحمل اسم دولة فلسطين، قبل أن تتراجع تحت الضغوط والتهديدات الإسرائيلية، وتبقي نفس الجواز الصادر بناءً على اتفاق أوسلو نفسه.

أما الاتفاقيات التي تريد أو تهدد السلطة بوقف العمل بها فهي ذات ثلاثة أبعاد؛ سياسية تتعلق بسحب الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل، واقتصادية تتعلق بوقف العمل باتفاق باريس الاقتصادي، وأمنية تتعلق بوقف التنسيق الأمني بين السلطة والاحتلال، علماً أنه يشكل أيضاً أحد أهمّ وأقوى الأسس التي تقوم عليها السلطة نفسها.

قيادة منظمة التحرير قبل أن تتحول بمعظم شخوصها إلى قيادة السلطة الحالية. وفي رسائل الاعتراف المتبادل 1993، اعترفت بإسرائيل بل حتى بحقها فى العيش بسلام وأمن، من دون أن تعترف هذه الأخيرة بالدولة الفلسطينية، ولا حتى بحق تقرير المصير للفلسطينيين بل بمنظمة التحرير نفسها ممثلاً شرعياً للشعب الفلسطيني، الاعتراف المجاني كان مجحفاً وخطأً كبيراً، بل استراتيجياً، كما أقر السيد صائب عريقات الذي ما زال كبير المفاوضين ومسؤولاً كبيراً في القيادة، والوقوع فيه أدى إلى الإجحاف أو الافتئات على الحقوق الفلسطينية الأخرى، والتأثير على العملية التفاوضية ومستقبلها بشكل عام.

أمر مماثل يمكن قوله عن اتفاق باريس الاقتصادي 1994، الذي فاوضت عليه وقبلت به أيضاً القيادة الحالية - للمنظمة والسلطة - وهو كبّل الاقتصاد الفلسطيني، منع تطوره رهنه تماماً لإرادة الاحتلال الإسرائيلي وأكثر من مسؤول اعترف وأقر بذلك - السيد نبيل شعث مجرد مثال - والسلطة نفسها طالبت نظرياً فقط أكثر من مرة بإلغائه أو تعديله، بل إنها طلبت علناً تدخل الحكومة الفرنسية التي رعت المفاوضات والتوقيع على أراضيها، لكن دون خطوات عملية جدّية على الأرض أو استراتيجية متماسكة متواصلة للضغط الفعلي لتعديله أو إلغائه. وللعلم فقط، فإن سلاح المقاصّة الذي تبتز به تل أبيب قيادة السلطة حالياً هو من مضامين ونتاجات هذا الاتفاق السيئ الصيت.

أما الاتفاق الثالث الذي تريد السلطة وقف العمل به فيتعلق بالتنسيق الأمني، علماً أنه يشكل ركيزة لبقاء السلطة نفسها، كما يتبجح الناطقون الإسرائيليون، وهو كلام حق يراد به باطل طبعاً، غير أن ملخص قصة التنسيق كلها جاء في عنوان صحيفة هآرتس صباح اليوم التالي لقرار أبي مازن وقف العمل بالاتفاقيات، إذ تساءلت الصحافة عن كيفية سفر أبي مازن لتونس للمشاركة في جنازة الرئيس الباجي قائد السبسي رحمه الله - 27 تموز يوليو - دون تنسيق، علماً أن رئيس السلطة شارك فعلاً في الجنازة، ما يعني أن التنسيق سار كما هو معتاد حتى قبل أن يجف حبر قرار وقف العمل بالاتفاقيات.

ببساطة نحن أمام إقرار صريح ومباشر من القيادة الفلسطينية، بأن الاتفاقيات التي تريد وقف العمل بها مجحفة قدمت فيها تنازلات مجانية من دون مقابل، ثم التزمت بها من جانب واحد لأكثر من عقدين، مع العلم أن اتفاق أوسلو نفسه تحدث عن فترة انتقالية من خمس سنوات كان يفترض أن تنتهي عام 1999، بالتوصل إلى حل نهائي بإقرار ضمني أن يشمل إقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967. مع ذلك لم تتخذ القيادة موقفاً حاسماً من تحويل المؤقت والانتقالي إلى دائم، كما من تنصل تل أبيب من مجمل الاتفاقيات التي تميل لصالحها أصلاً.

أعتقد أن ثمة سؤالاً مهماً آخر لا بد أن يطرح، ويتعلق بالشرعية الديمقراطية والشعبية للقيادة الحالية، هي غير منتخبة على كل المستويات سواء الخاصة بالمنظمة، حيث عقد المجلس الوطني الأخير بشكل مرتجل عشوائي دون حضور ثلاث من خمس قوى سياسية رئيسية، ثم السلطة حيث يعتبر أبو مازن رئيساً لتصريف الأعمال بعد انتهاء مهلته الدستورية، وعموماً وبغض النظر عن الشرعية على أهميتها لا تبدو القيادة مؤهلة أو تملك البصيرة للخروج من الاتفاقيات المجحفة التي قبلت بها، ولا ضمان أن لا تكرر الأخطاء، بل الخطايا نفسها في أي خيار آخر قد تلجأ إليه مع التشكيك أصلاً في جدّيتها للقيام بذلك، ليس فقط لحديث الرئيس عن استعداده للعودة للعملية التفاوضية الثنائية مع إسرائيل وفق نفس الأسس والقواعد الفاشلة عند استقباله وفد ما يسمى المعسكر الديمقراطي الإسرائيلي - الإثنين 12 أغسطس/ آب 2019 - إنما للمهزلة التي شهدتها الجلسة الأولى للّجنة الخاصة المعنية بالخروج من الاتفاقيات، كما نشرت العربي الجديد - الإثنين 5 أغسطس/ آب 2019 - حيث علا السجال والصراخ وسادت العشوائية شكلاً ومضموناً من دون الخروج بأي نتيجة سوى الاستسلام للواقع الراهن الذي فرضته القيادة البائسة العاجزة على الشعب الفلسطيني.

المساهمون