"إسرائيل" اكتملت... أين فلسطين؟

27 يناير 2018
+ الخط -


يبدو أن قرار دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة للدولة الصهيونية ليس سوى خطوة في مشروع متكامل، ربما هو ما أُطلق عليه "صفقة القرن"، رغم أن هذه الصفقة تتعلق بـ "مصالحة" تقوم بها نظم عربية مع هذه الدولة. ويبدو أن ما تقوم به الدولة الصهيونية هو المقدمة لهذه الصفقة.

فبعد هذا الإقرار من قبل ترامب قرّر الكنيست الصهيوني أن أي قرار يتعلق بمصير القدس يجب أن يحظى بموافقة ثلثي الأعضاء، وبهذا كرّس ضم القدس (بحدودها الموسعة، التي لا أحد يعرف أين هي سوى القادة الصهاينة)، التي كان من المفترض أن جزأها الشرقي مشمول بالقرار 242، والذي كان يُعتقد أنه المحدِّد للحدود بين "الدولتين: الفلسطينية واليهودية". لكن هذه خطوة أولى كما يبدو، حيث اتخذ حزب الليكود الحاكم قراراً بضم المستوطنات المقامة في أرض الضفة الغربية، ويبدو هنا أن الأمر يتعلق بما أُطلق عليه (سي) في اتفاق أوسلو، وتشمل الأراضي الزراعية في الضفة الغربية، والتي لا زالت خاضعة أمنياً للدولة الصهيونية، وهي تشمل معظم أراضي الضفة، وكانت الدولة الصهيونية قد سيطرت عليها وتبلغ نسبة مساحتها 60% من أراضي الضفة الغربية. بمعنى أن ما تبقى "خارج الضم" هو المدن الأساسية، والقرى التي تخضع أمنياً للدولة الصهيونية وإدارياً للسلطة الفلسطينية. والتي تعتبر أرضها جزءاً من "أرض إسرائيل" لكنها لا تريد ضمها لأن ذلك يعني ضم ملايين جديدة للدولة الصهيونية مما يوجد اختلالاً ديموغرافياً لا تريده.

هذا المنظور يقوم على لاءات خمسة حددها قادة الدولة الصهيونية منذ احتلال الضفة الغربية سنة 1967، وهي لا دولة فلسطينية، لا انسحاب من القدس، لا انسحاب من غور الأردن، لا عودة للاجئين الفلسطينيين، ولا إزالة للمستوطنات.

وكانت السنوات منذئذ هي سنوات التحضير وانتظار الفرص لتحقيق ذلك "على الأرض"، وهذا ما بدا أنه ممكن الآن. لهذا بدأت الخطوات العملية لإقرار الأمر "قانونياً" من خلال تشريع الكنيست. حيث كانت مشكلة تعيق ذلك، هي كيفية حصر السكان الفلسطينيين في معازل لكي يكون ممكناً إخراجهم من الضم للدولة، حيث أن الأرض هي "أرض إسرائيل" كما هو مقرر منذ طرح فكرة "الدولة اليهودية" في مؤتمر بازل.

ولقد اعتمد خلال حرب سنة 1948 المجازر من أجل التهجير، وسيطرت على أكبر مساحة ممكنة بدون كثافة سكانية. لكنها حينما احتلت الضفة الغربية وقطاع غزة كانت تعاني من الكثافة السكانية الفلسطينية، لهذا شددت الضغط من أجل تقليص عدد السكان الفلسطينيين، وفصلت قطاع غزة عن الضفة الغربية، مخرجة إياه (ربما مؤقتاً) من الضم، لكنها سارعت في التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، ووسعت السيطرة على الأرض، كما أقامت جدار العزل، والطرق الالتفافية وتقطيع التواصل بين مناطقها، ومحاولة حصر السكان في المدن الرئيسية.

كل ذلك جرى في سنوات الاحتلال، وكان أكثر تسارعاً خلال مرحلة أوسلو. فبحجتها قام جدار العزل، وبحجتها أُقيمت الطرق الالتفافية، وبحجتها جرى السعي لمركزة السكان الفلسطينيين في المدن. وكان واضحاً أن السلطة الفلسطينية هي الغطاء لتحقيق كل ذلك، حيث كان اتفاق أوسلو ينص على إقامة إدارة ذاتية مدنية فلسطينية، وهذا ما تحقق فعلياً، مع تأسيس أجهزة أمنية عقيدتها "محاربة الإرهاب" الفلسطيني، الذي يعني محاربة كل من يفكر في التصدي للدولة الصهيونية.

وبالتالي أوجدت قوى أمنية من السكان أنفسهم، لكي يكونوا "جديرين" بتحقيق "حكم ذاتي موسع" كان في أساس السياسة الصهيونية منذ سنة 1967، وهو حكم ذاتي للسكان فقط، وكما كان يُطرح أن يكون في ارتباط مع الأردن، أو حسب المنظور الصهيوني أن يكون السكان في ارتباط مع الأردن، وأن يكون للنظام في الأردن "سيطرة سياسية" على السكان.

ما يرد في التسريبات حول صفقة القرن يشمل الربط للسكان في الضفة مع الأردن، وفي غزة مع مصر. بمعنى أن ما يتحضّر اليوم هو التحقيق الكامل للحل الصهيوني. الحل الذي يريح الدولة الصهيونية من عبء سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، ويُبقي سيطرتها على الأرض، وتحكمها بالحدود، وتصبح فلسطين هي "الدولة اليهودية".

بالتالي ما يظهر الآن هو وصول المشروع الصهيوني إلى اكتماله، بضم أرض فلسطين كلها، دون أن يتحمّل عبء السكان الباقين في الضفة الغربية وقطاع غزة. حيث سيُطرح لهؤلاء صيغة "حكم ذاتي موسّع"، أو أكثر من حكم ذاتي وأقل من دولة، وهو أمر يتعلق بالسكان فقط. وفي علاقة مع كل من الأردن ومصر. بهذا تغيب فلسطين، ويسقط الوهم حول حل الدولتين، في ظل اعتراف عالمي بـ "الأمر الواقع". كل ذلك جرى "تحت أعيننا"، لكنه تظلل بأوهام حول التسوية وحل الدولتين، والشرعية الدولية، وغيرها من الأوهام التي حوّل الثورة التي بدأت قبل أكثر من نصف قرن إلى سلطة هزلية، والنضال إلى استجداء عبر المفاوضات.

لنصل الآن إلى تكسّر الأوهام، رغم أن السلطة لم تجد خياراً إلا الإيغال في السياسة ذاتها، على أمل الحصول على اعتراف بأنها "دولة تحت الاحتلال"، وهذا ما لا يسمح الوضع الدولي به، وفي الواقع لا يعني شيئاً لأن الدولة الصهيونية سوف تعيد ترتيب وضع السلطة بما يخدم منظورها. وهي تستطيع ذلك ما دامت تمسك بالبنية الأمنية في مناطق السلطة.

إذن، قاد مسار التسوية إلى دمار الثورة، وتهميش تنظيماتها، وحصارها في مناطق محدودة، في الوقت الذي كان التفاوض يعطي الوقت للدولة الصهيونية لترتيب سيطرتها وفق التصور الذي صاغته منذ احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة. ليكتمل مشروعها الآن، وليظهر أن حل الدولتين كان لعبة تلهت بها المنظمات الفلسطينية، ومن ثم السلطة الفلسطينية.

كان واضحاً المنظور الصهيوني لمن كان يدقق قليلاً في المخططات والأفكار التي كانت تطرحها الدولة الصهيونية والأحزاب الحاكمة فيها، وكان واضحاً أنه سيصل إلى هذه النقطة التي أخذت تترجم إلى قرارات تصدر عن الكنيست. بالتالي كان واضحاً كذلك أن انحراف النقاط العشر الذي تقرَّر في المجلس الوطني الفلسطيني سنة 1974 لن يفضي سوى إلى دمار الثورة. لكن أظهر الواقع كم ابتلى الشعب الفلسطيني بقيادات غبية وهزيلة، وربما أكثر من ذلك.

لهذا يجب أن يعاد بناء التصور الذي ينطلق من أن الصراع مع الدولة الصهيونية، بما هي جزء من المنظومة الإمبريالية، هو صراع حدّي، لا حل وسط ممكن فيه، وإذا كانت "إسرائيل" تكتمل الآن، فلا بد من استعادة فلسطين.