500 مهاجر و5 أثرياء.. ما هو أبعد من المقارنات

500 مهاجر و5 أثرياء.. ما هو أبعد من المقارنات

24 يونيو 2023
نحو 25 ألفاً غرقوا في المتوسط منذ 2014 (Getty)
+ الخط -

من بين أكثر من 25 ألف إنسان دفنوا تحت مياه المتوسّط منذ عام 2014، هربًا من مدافن تحفر كل يوم على يابستهم، كان لنحو 500 منهم، غرقوا قبل نحو 10 أيام، نصيب أكبر نسبيًّا من الضوء؛ ليس لأن هذا العدد يمثّل واحدة من أكبر الكوارث البحرية في زماننا، ولا لأن عائلات بأكملها، مع أطفالها، غيّبت جسدًا وروحًا، بل لأن خمسة آخرين غرقوا في شمال الكرة الأرضية، داخل غوّاصة حديثة، وبرحلة كلّفت ملايين الدولارات، نالوا اهتمامًا رسميًّا وإغاثيًّا وإعلاميًّا أكبر بكثير، وفتحوا الباب واسعًا أمام المقارنات.

لكن المقارنة بين الحادثتين - إن صحّت تسمية الأولى بالحادثة، بالنظر إلى أن عناصر خفر السواحل اليونانيين لم يشارفوا حتى الحدّ الأدنى لتلافيها - تتفرّع إلى استدلالات كثيرة، أبعد من التناقض القيَميّ الصارخ في ما يتّصل بحيوات البشر، ومن ازدواجية المعايير، والنفاق الأخلاقي. لقد قدّمت لنا حرب أوكرانيا، وما واكبها من زخم إعلامي غربي، ومن صدمة وتأسٍّ على "شقر مزرورقي العيون" يموتون ميتة العالم الثالث، أجوبة كافية في هذا الصدد. ترتدّ المساءلات اليوم إلى جدوى عقد المقارنات من أساسه، وإلى المادية التي تحكم رؤية الإعلام الحديث برمّته للضحايا.

رغم ذلك، تخبرنا المقارنات، حتى في وجهها الظاهري، بشيء عميق آخذ بالتجذر في عقلية أوروبا، والغرب، إزاء "مشكلة" اللاجئين، وعن سياسة القتل الصامت التي باتت بمثابة عقد غير مكتوب بين ساستها، وعن انزياح مكتوم نحو النهج اليميني في ما يتصل بهذه القضية. أرسلت الولايات المتحدة طائرات وفرقًا وغوّاصات للبحث عن الخمسة الذين فقدوا أثناء مغامرتهم الاستكشافية، وزادت عليها فرنسا بـ"روبوت" قادر على الغوص إلى عمق 6 آلاف قدم، وهذا ما لم نرَه في أي حادثة غرق سابقة قبالة شواطئ أوروبا، حيث تنتهي رحلة مهاجرين كثر بحثًا عن حياة جديدة. بل تعدّى الأمر ذلك في هذه المرة لإلقاء اللوم على الضحايا، بكلّ صوره المكنونة والمباشرة، كما في اتهام اليونان الغرقى بـ"رفض تلقي المساعدة"؛ ولعلّها تقصد بذلك إلقاءهم إلى البحر مجدّدًا بلا سترات أو قوارب نجاة، كما فعلت بثلاثة مهاجرين العام الماضي، نجا واحد منهم ليروي قصة موت رفيقيه.

يحفل سجلّ اليونان بالكثير من تلك الوقائع والقصص التي غرقت مع أصحابها في قاع المتوسط. قبل نحو 3 أسابيع فقط من الفاجعة، على سبيل المثال، نشرت "نيويورك تايمز" مقطع فيديو لمجموعة من طالبي اللجوء، بينهم طفل، وهم يُنقلون قسرًا إلى قارب مطاطي سريع في بحر إيجة، ثم تركوا لمصيرهم، قبل أن تصل قوارب خفر السواحل التركي للإنقاذ. رغم ذلك، يتعامى المسؤولون الأوروبيون عن مثل تلك الحوادث، بل تذهب رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين إلى الثناء على اليونان بوصفها "درع أوروبا" ضد الهجرة. 

باتت أوروبا، إذًا، من مركزها إلى شعبوييها وتياراتها البديلة، تعتنق خطاب رهاب المهاجرين واللاجئين، لكن تتوزع السرديات بين اللغة الفاقعة وتلك المنافقة، التي لا تزال تدعي التعددية والانفتاح وحقوق الإنسان. ربّما ذلك ما يفسّر أن أحدًا لم يكلّف نفسه عناء تفادي المأساة، أو حتى إعادة الجثث إلى أهاليها من أجل نظرة وداع أخيرة، وربّما ذلك ما يفسّر الصمت والتعمية الإعلامية أيضًا. هي رسالة لجميع اليائسين في الشرق أن أوروبا لن يهتزّ لها جفن وهي تراقبهم بينما يموتون منسيين في أعماق البحار. 

ذلك تحديدًا ما يجعل البحث عن المقارنات زلّة عكسيّة المدلولات والنتائج؛ فهي - أي المقارنات - في سعيها نحو فضح الغرب واعتلالِ معاييره، تتوسّل بشكل ضمني قيمه المدعاة، إنسانيتَه، وعالميّتَه، ووصايته الأخلاقية. لقد سخّرت كل تلك الدول تقنياتها المتقدّمة لإنقاذ مواطنيها، أو بالأحرى من تصنّفهم على أنهم من عالمها "العلويّ"، ولعلّ الأجدى لنا، شعوب هذه المنطقة، أن نسائل دولنا نحن عمّا أوصلنا إلى شواطئ أوروبا قبل كل شيء، وأن نبحث عن خلاصنا بمقدّراتنا الذاتية، في عالمنا نحن.

لكن هذا لا يعني أيضًا أنه ليس ثمّة من يموتون منسيين حتى في ذلك العالم الآخر. لا يمكن أن تمرّ هذه الحادثة من دون ملاحظة البعد المادّي في تثمين الضحايا، وفي توجيه أولويات الإعلام الحديث. حقيقة أن حادثة الغواصة بذاتها مأساة كذلك لم تمنع كثيرين من التعليق على بذخ عمليات البحث الطويلة واليائسة، والتعيين على ثراء الضحايا الذين أنفقوا كل هذا المال على رحلة لم تتعدّ غايتها الترفيه وحسب. لا شكّ في أن حياة الإنسان أثمن من كل هذا، لكن لنا أن نجد هنا، في الغرب تحديدًا، نمطًا ما يستحقّ السؤال: لماذا تجد مآسي المترفين دائمًا طريقها إلى الضوء، في الإعلام والسينما والتلفزيون والروايات على حدّ سواء، أكثر من سواهم؟ وفاة الأميرة ديانا مثلًا، أو انتحار مارلين مونرو، أو قبل كل ذلك، غرق "تايتانيك"، التي قضى الغارقون حديثًا في طريقهم للبحث عنها.

المساهمون