عندما تضيق شوارع بيروت بعربات الأطفال

عندما تضيق شوارع بيروت بعربات الأطفال

21 اغسطس 2015
... وأخيراً فسحة (حسين بيضون)
+ الخط -

عندما زارت يارا (39 عاماً) لبنان أخيراً مع صغيرها كريم (18 شهراً)، كانت متلهّفة للتجوال في شوارع بيروت التي افتقدتها في غربتها. أرادت أن تتشارك حبّها للمدينة مع صغيرها. هنا، بعض محطات رحلتها، كما ترويها...

كان كريم يغطّ في نومه عندما أعلن القبطان هبوط الطائرة في بيروت. راح الركاب يصفّقون، فأفاق وصار يبكي. حاولتُ تهدئته، فغفا من جديد على غير العادة. حملته وتوجّهت إلى باب الطائرة وسألتُ عن عربته، فرمقتني المضيفة بنظرة متعجّبة. لوهلة، نسيتُ أنني لست في أوروبا، وانطلقتُ وأنا أحمل عشرين كيلوغراماً لاستلام أمتعتي. كريم يزن 11 كيلوغراماً، أما حقيبته فعشرة أو أكثر.

--

اشتقتُ إلى بيروت، وإلى شوارعها. لم أكن أصدّق متى يطلع الصباح لأعرّف كريم على مدينتي المفضّلة. كانت رحلتنا مرهقة، لكن لا بدّ من أن أستفيد من كل لحظة، بعد انقطاع عام كامل.

طلبتُ سيارة أجرة مجهّزة بكرسيّ للأطفال، فاعتذرتْ مني عاملة الهاتف: "لا تتوفّر لدينا هذه الخدمة". اتصلتُ بمكتب آخر، لأتلقّى الجواب نفسه مع نبرة متعجّبة. لم أفقد الأمل واتصلتُ بثالث من دون جدوى، على الرغم من أن قانون السير الجديد يفرض وضع الأطفال في كراسٍ خاصة عند تنقّلهم في مركبات. قلتُ لنفسي: "حسناً، فليكن". وفي المقعد الخلفي، وضعتُ كريم في حضني ورحتُ أشدّ عليه حتى كدتُ أخنقه. صار يبكي.

--

وصلنا بعد أكثر من ساعة ونصف الساعة. كانت زحمة السير خانقة، كما عهدتُها. وضعتُ كريم في عربته لتبدأ جولتنا في المدينة التي لطالما سكنتني في غربتي.

حاولتُ رفع العربة إلى الرصيف، لم أنجح. رحتُ أضغط على مقبضَيها بكل قوّتي، عبثاً. في المحاولة الرابعة، تمكّنتُ من ذلك. الرصيف مرتفع ولا ممرّ خاصاً للعربات. شعرتُ بأن رأس كريم ارتجّ، وأحسستُ برغبة في البكاء. نسيتُ واقع الأرصفة. ربما لم أنسه، لكنها المرّة الأولى التي أختبر فيها التنقّل في الشوارع مع عربة أطفال. في آخر زيارة لي قبل عام، كان كريم يبلغ من العمر بضعة أشهر. لم يكن التنقّل معه صعباً. كنت أحمله على صدري في حمالته الخاصة.

رحتُ أدفع العربة وأتأمّل المباني والزوايا، وأخبر كريم عن التفاصيل التي تغيّرت وعن تلك التي ما زالت على حالها. بين حين وآخر، كانت أرضيّة الرصيف تبدو غير مستوية، وكانت ترتجّ العربة.

وجدتُ نفسي عالقة على الرصيف. لا فسحة بين سيارة وأخرى لأمرّر منها العربة. سرتُ لبضع دقائق إضافيّة، علّني أصل إلى آخره. لكن، عند طرفه عمود، وضِعت في وسطه إشارة تحدّد اتجاهات السير. الجهتَان حول العامود ضيّقتان، فشعرتُ بحاجة ملحّة إلى الصراخ، خصوصاً أن كريم بدأ يتململ. أخيراً، انطلقتْ إحدى السيارات المركونة، فأنزلتُ العربة. ارتجّ رأس كريم من جديد.

رحتُ أنتظر سيارة أجرة عموميّة. تقترب واحدة، وقبل أن أشير إلى وجهتي يصرخ السائق: "تاكسي". رفضتُ، لكن الأمر تكرّر مرات عدّة. سألت الأخير: "تاكسي؟ لماذا؟". أجاب: "معكِ عربة أطفال". تعجّبتُ: "لكن عربة الأطفال توضع في صندوق السيارة!". ردّ: "عليّ الترجّل من السيارة لوضعها في الصندوق. أو أنك تفعلين ذلك بمفردك؟". حاولتُ الاعتراض: "كيف أقوم بذلك وصغيري بين ذراعَي؟". بهدوء تام حسمَ: "إذاً، تاكسي". في النهاية، رسَتْ المفاوضات على تعرفة تساوي أربعة أضعاف التعرفة الأساسيّة. بدل لركوبي، وبدل لكريم الجالس في حضني بطبيعة الحال، وبدلان لقاء وضع العربة في الصندوق.

--

من جديد، رفعتُ بجهد العربة إلى الرصيف، لأكتشفَ أن البلديّة زرعت أشجاراً في وسطه. هو في الأساس ضيّق، لذا يستحيل تمرير العربة. رحتُ أتنقّل بين السيارات التي لم تتوقّف عن إطلاق أبواقها. وعندما حاولتُ العودة إلى الرصيف، وجدتُ أن أحد المقاهي رتّب جلسته الخارجيّة عليه. أنزلتُ العربة من جديد وأنا أشتم في سرّي. شعرتُ وكأنني أختنق، بالتالي لن أكمل استعادتي للمدينة.

عند التقاطع، رحتُ أنتظر الإشارة الضوئيّة لأجتاز الطريق. هكذا اعتدتُ. تتحوّل الإشارة برتقاليّة، ما ينذر بالفرج. وأقف عند حدود الممرّ المخطّط. الإشارة حمراء للسيارات، وخضراء للمشاة. لكن، كيف العبور؟ السيارات تقف على الممرّ المخطط، لا بل تجاوزته. حنقتُ، لكنني عدتُ وضحكتُ. يريدون تطبيق قانون سير جديد!

--

وقفتُ أنتظر سيارة أجرة عموميّة، وإن بتعرفة تاكسي. ليس المال الموضوع هنا، إنما أسلوب النصب! أنتظر وأراقب الباصات. عندما كنتُ في أوروبا قبل بضعة أشهر، تأخّرتُ في مرّة ثوانٍ عن موعد انطلاق الباص. رحتُ أركض وأدفع أمامي عربة الصغير، علّني أدركه قبل الانطلاق، لكنه انطلق من دوني. فجأة رأيته يتوقّف على بعد أمتار، في حين راح السائق يلوّح لي. في البداية، ظننتُ أنه يقصد غيري. هو رآني أركض، فتوقّف ليقلّني. هذا أمر ممنوع بحسب القانون. الباص لا يتوقّف إلا في المحطات، مع استثناءات جدّ محدودة. أنا أمّ مع رضيع. حالة استوجبتْ توقّفه. ورحتُ أفكّر جينها: "لو كنا في بيروت...".

اقرأ أيضاً: سوف أعود وأحضر زفافكِ 

دلالات