الحيّز العام في الولايات المتحدة

الحيّز العام في الولايات المتحدة

14 يونيو 2015
محطة القطارات المركزية القديمة في نيويورك قبل هدمها (Getty)
+ الخط -
في عام 1963 قررت الشركة المالكة لمحطة القطارات المركزية في نيويورك (محطة سكك الحديد بنسلفانيا)، هدم المبنى الأثري القديم وتشييد مبنى عصري بدلاً عنه. وأتى ذلك لأسباب عديدة، بما في ذلك خفض تكاليف الصيانة المرتفعة جداً للمحطة وأبنيتها آنذاك، في ظل صعوبات مادية وتدنٍّ في نسبة مستخدمي سكك الحديد. ولقي ذلك في حينه معارضة واحتجاجات من قبل عدد كبير من المعماريين الذين رأوا قرار هدم صرح معماري مهم وحيز عام، خطأً فادحاً. وقد اعترضوا على أن تكون معايير الهدم بشكل رئيسي خاضعة لموازين الربح والخسارة.

تشهد محطة القطار المركزية في نيويورك (بين ستيشن) حركة أكثر من 550 ألف مسافر فيها يومياً، يتنقلون عبر وسائل النقل العمومية والخاصة التي تمرّ فيها، بحسب بيانات وزارة النقل في نيويورك.

بعد عمليّة الهدم تلك، صادق عمدة نيويورك في عام 1965 على قانون لحماية الأماكن والمباني العامة كإرث حضاري ويمنع هدمها. يُذكر أن مدينة نيويورك في تلك الفترة وخلال العقود التي سبقتها، كانت قد شهدت هدم عدد كبير من الأبنية القديمة وتشييد ناطحات سحاب بدلاً عنها. لكن منتقدي هدم المباني القديمة آنذاك، لم يعارضوا بالضرورة بناء ناطحات السحاب كمبدأ.

وفي حديث إلى "العربي الجديد" يقول أستاذ العلوم الاجتماعية السابق في جامعة نيويورك رينيه بويتيفن الذي كان قد وضع بحوثاً عدّة حول العلاقة ما بين المجتمع والحيّز العام والتخطيط المديني البديل، إن "الحيّز العام، بما في ذلك الشوارع والحدائق والبنية التحتية والمباني العامة وغيرها، تلعب دوراً مهماً قد يحدّ أو يساعد على بلورة علاقة إيجابية في ما بين فئات المجتمع المختلفة وكذلك علاقتها بالمدينة، فتعكس هويات المدينة السياسية والاجتماعية والتاريخية". يضيف أن "تدمير محطة القطارات عام 1963 يشكّل مثالاً صارخاً للصراع على الحيّز العام وسيطرة رأس المال عليه. لكن هذا الصراع الذي تحسمه المعايير المادية لصالحها في الغالب، يبقى مهدداً عندما يتمكن أفراد أو مجموعات من إعادة اكتشاف أو احتلال هذا الحيّز عن طريق بلورة علاقتها مع الحيّز بصورة أعمق".

ويؤكد في هذا السياق على "ضرورة أن يشكل سكان الأحياء تكتلات تحاول أن تكون جزءاً من قرار تخطيط واستخدام الحيز العام (أو الخاص الذي ينتشر في الولايات المتحدة تحت مسمى العام كالحدائق وغيرها). فهذا الحيّز العام بما في ذلك الشوارع والمباني والمكتبات وما إليها هي في نهاية المطاف الرئة التي يتنفس من خلالها سكان المدينة، لا سيّما مدينة مثل نيويورك".

إلى ذلك يشدّد بويتيفن على أن "التخطيط المديني والصراع على الحيّز العام يعكس الصراع بين الطبقات، ولا يمكن فصله عن الصراع في أماكن العمل ورفع الأجور وتأمين الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للعمال أو الموظفين". ويوضح قائلاً: "إذا أخذنا عاصمة الولايات المتحدة الاقتصادية كمثال، فإن معظم سكان هذه المدينة الغنية (70 في المائة) هم من المستأجرين، وهي واحدة من أغلى المدن في العالم في ما يخص تكاليف المعيشة وأجور البيوت، الأمر الذي يعني أن ارتفاع أجور العمل للطبقات المتوسطة والفقيرة، لن ينعكس بالضرورة بشكل جذري على تحسين ظروف هؤلاء المعيشية".

وينعكس تحسّن الظروف المعيشية أو عدمه على الحيّز العام المحيط بأماكن السكن وما يرافقه من حدائق عامة أو بنية تحتية جيدة على سبيل المثال. وهذا ما يمكن ملاحظة غيابه في غيتوهات الفقراء ومحيطها أو وجوده بكثافة في "غيتوهات الأغنياء"، كما يطلق عليها بعض الباحثين في مجال التخطيط المديني البديل.

وفي مدينة مثل نيويورك بشققها الصغيرة عموماً وأسعارها الخيالية، والتي يصل عدد سكانها إلى ثمانية ملايين نسمة بحسب بيانات البلدية، يصبح الحيّز العام وما يقدمه من أماكن خضراء أو ملاعب للأطفال أو مبان عامة كالمكتبات ومحطات القطارات إذا كانت من طراز معماري مميز وإضاءة جيدة وذات شبابيك عالية مثلاً، متنفساً لسكان المدينة. وهو يشكل حاجة أساسية لضمان جودة المعيشة.

ويرى بويتيفن أن "الصراع على الحيّز المديني وانعكاسه على جودة الحياة لا يمكن فصله عن الصراعات السياسية والاجتماعية الأخرى. وهو لا ينعكس بالضرورة سلباً على الاقتصاد، ومن الملاحظ أن الأماكن العامة التي تأخذ بعين الاعتبار المواصلات الجيدة والحدائق العامة وغيرها، تجمع حولها كذلك محلات تجارية ومطاعم تساعد بدورها على الإنفاق وتنشيط الحركة الاقتصادية".

إقرأ أيضاً: اللامساواة تكذّب "الحلم الأميركي"