الركض خلف بوسطة "عين الرمانة"

13 ابريل 2014
الصورة من أرشيف المصور الشهيد عبد الرزاق السيد
+ الخط -
مرّت البوسطة في شارع مار مارون في منطقة "عين الرمانة" المسيحية. مرّت في لحظة كان لبنان كلّه فيهامعبئاً وعلى شفير الانفجار. سبق هذه اللحظة احتقان كثيف. اتفاقات دولية، وحادثة اغتيال الزعيم السياسي معروف سعد في مدينة صيدا، وانقسام حاد بين اللبنانيين حول المقاومة الفلسطينية، وبداية تحضير الأحزاب اللبنانية لميليشياتها ومجموعاتها العسكرية. كان جو البلد كلّه يسير نحو الحرب الأهلية. لكن سائق البوسطة لم يكن منتبهاً لكل ذلك. ظلّ نظره مُركزاً على الطريق أمامه.

كانت البوسطة تقلّ مجموعة فلسطينية عائدة من احتفال يقام في الذكرى الأولى لشهداء "عملية الخالصة"في شمال فلسطين، باتجاه "مخيم تل الزعتر" في شرق بيروت.
الوقت قبيل الظهر، ويوم الأحد هذا من شهر أبريل/ نيسان اللطيف لا يوحي أن حدثاً كبيراً سيقع ويكون فاتحة لدم كثير، فكّر السائق ربما.أوقفت الميلشيات التابعة لحزب "الكتائب اللبنانية" البوسطة التي يقودها ويملكها السائق اللبناني مصطفى حسين. كان الكتائبيون قد نصبوا كمائن عدة، وعندما مرت البوسطة أمامهم أمطروها بالرصاص.                                                                                                                         
 

سقط ستة وعشرون قتيلاً فلسطينياً. اما الرواية الكتائبية فتقول إن مؤسس حزب "الكتائب اللبنانية" بيار الجميل كان يحضر افتتاح كنيسة في منطقة "عين الرمانة" في ذلك اليوم حين مرت سيارة فيها عناصر فلسطينية مسلحة أطلقت النار تجاهه فأصاب الرصاص مرافقه جوزف أبي عاصي الذي قتل على الفور، فبدأت الاشتباكات.

لكل بداية حرب أكثر من رواية. والحروب بالعادة أعنف درجة من درجات الاختلاف في وجهات النظر.

خرج يومها من يقول إنه لم يكن من المفترض أن تمر البوسطة من هذا الشارع في ذلك اليوم. ترى لو لم يحصل ذلك هل كان هذا اليوم قد انقضى على خير؟ هل كان تاريخ انطلاقة الحرب في ذلك اليوم من العام 1975 ليتأجل بعض الشيء؟

هكذا وقعت الحادثة
في مكتب محطة تأجير "الساتيلايت" التي يملكها مع شريكين آخرين (أحدهما مسؤول حزبي محلّي) في حي "اللجا الشعبي" في قلب بيروت يصير رضا حسين حذراً عندما يسأله غريب عن بوسطة "عين الرمانة". حذر رضا يبرّره بنفسه عندما يقول بإنه ملّ من الحديث عن البوسطة. رضا، هو ابن صاحب وسائق البوسطة الأشهر في التاريخ اللبناني الحديث.
يتحقق رضا جيداً من هوية الزائر قبل أن يقرر الحديث، بإيجاز، عن ذلك اليوم. يتمتّع بحذر يملكه الكثير من اللبنانيين على الرغم من أن ولاءه السياسي ليس خافياً على أحد. فقد علّق في محيط مكتب "الساتيلايت" صوراً عملاقة موقّعة باسمه لرئيس مجلس النواب ورئيس "حركة أمل" نبيه بري. كما وضع في محيط المكتب براميل ملوّنة بألوان علم "أمل"، التي كانت كغيرها من الأحزاب السياسية، طرفاً من أطراف القتال في الحرب اللبنانية ضد لبنانيين آخرين وضد الفلسطينيين نفسهم.

نزل رضا إلى ميناء "الدالية" التي تقع على شاطئ الروشة ليتمتّع بيوم مشمس في ذلك النهار. لم يكن قد تجاوز السادسة عشر من عمره. عندما عاد إلى منطقة المصيطبة حيث يقطن بعد ساعات من السباحة، وجد البيت مكتظاً بالجيران. فالخبر كان قد وصل توّاً: أبو رضا أصيب في حادث إطلاق النار. الحادث الذي سيصير عرفاً حادث انطلاقة الحرب اللبنانية.

يروي رضا نقلاً عن ذاكرة والده الذي توفي أنه في ذلك اليوم كان الوالد، مصطفى حسين، متوجهاً إلى منطقة صبرا ليقلّ مجموعة من الركاب عندما أوقفته مجموعة فلسطينية وطلبت منه أن يقلّها إلى "مخيم تل الزعتر". ومع أن البوسطة تتسع لعدد محدد من الركاب إلا أن من صعدوا فيها بلغوا ضعف هذا العدد. "وقتها لم يكن أحد يرفض طلباً للفلسطينيين"، يقول بجدّية. كانت "الثورة الفلسطينية" في بدايتها.

صعد الفلسطينيون إلى البوسطة التي ستقلّهم، من دون مقابل، بحسب ما يؤكد رضا. قرّر والده أن يختصر الرحلة بين غرب بيروت وشرقها، فقاد البوسطة عبر منطقة "عين الرمانة" حيث وقعت المجزرة.

أصيب مصطفى حسين برصاصتين. اخترقت الأولى كتفه ومسحت الثانية طرف رأسه. عندما أدرك أنه علق في كمين عسكري خاف من أن تشتعل البوسطة بمن فيها فأغلق صمّام خزان الوقود وزحف بجسمه إلى أسفل البوسطة. اختبأ تحتها ينتظر مصيره. فالمسلحون، وبعدما أطلقوا النار على ركاب البوسطة اقتربوا منها وأطلقوا النار مجدداً على المصابين ليتأكدوا من مقتل الجميع.

خلال إصعاد الجثث إلى سيارة إسعاف تابعة لبلدية المنطقة، في وقت لاحق، طلب أحد المسعفين من مصطفى حسين أن يمثّل دور الميت كي يتمكن من النجاة بحياته. لكن شيئاً ما قد حصل فتحرّك مصطفى. لاحظ أحد المسلحين ذلك فأطلق النار على الإسعاف التي همّت بالانطلاق. لكنّه أصاب نافذتها فأصيب مصطفى حسين مجدداً جراء الزجاج المتناثر. لكنّه نجا في ذلك اليوم.

عولج مصطفى من إصابته والتأمت جراحه، لكن جراحاً أخرى كانت قد بدأت تتفتّح. لم يقد البوسطة بعد ذلك اليوم. تولّى هذه المهمة شقيقه ومن ثم ابنه رضا.

البوسطة "الشؤم" على ما وصفتها والدة رضا لم تتلق الرصاص مرة واحدة فحسب. في كل معركة من معارك بيروت كانت لها حصة من الرصاص والقذائف. في معارك خصوم وأعداء السياسة، وفي معارك حلفاء الصف الواحد أحياناً. الحروب الأهلية تبدأ دائماً بشعارات فضفاضة ثم تنتهي بصراعات للسيطرة على الزواريب. أصاب البوسطة ما أصاب اللبنانيين جميعاً.

وهب مصطفى حسين البوسطة إلى شخص يدعى عباس هاشم، بعدما تكررت إصاباتها خلال الحرب.قال له: "خذها من دون مقابل". قام هاشم بمقايضتها على صندوق شاحنة مع السائق سامي حمدان الذي انتقلت إليه ملكيتها، قبل نحو عشرين سنة.

ولسامي حمدان، ابن بلدة الغبيري في ضاحية بيروت الجنوبية، قصة خاصة مع بوسطة أخرى.

بوسطة.. وبوسطة
يملك سامي حمدان بوسطة مماثلة لبوسطة "عين الرمانة" ولها قصة حزينة مثلها. ذات يوم، خلال الحربالمستمرة، كان يصعد إلى بوسطته التي يقل فيها التلاميذ من مدرسة "العاملية" في منطقة رأس النبعالتي تشكل خط تماس بين طوائف وأحزاب مختلفة في بيروت، وما إن هم بالجلوس خلف المقود فيذات اللحظة التي كان التلاميذ يجلسون فيها في مقاعدهم، حتى سقطت قذيفة قريبة وصلت شظاياها إلى البوسطة. فأصيب حمدان في ذراعه وتلوّنت الحقائب المدرسية بالدم الأحمر بعدما قُتل بين يديه ثلاثة تلاميذ.
وللمفارقة الحزينة كان بين التلاميذ الثلاثة فتاة من آل حمدان اسمها ناديا، لم تكن تقرب سامي، لكن لأنه أراد أن يحفظ ذكرى طيبة لها أطلق اسمها على إحدى بناته عندما أنجبها. أراد ان يوثّق بهذا الاسم حدثاً حفر في جلده وقلبه. ذكرى مؤلمة سيحملها معه إلى آخر العمر.

البوسطة نفسها صارت في وقت لاحق، ولسخرية الحرب، متراساً بين منطقتي "عين الرمانة" والطيونة. لذلك عندما عرض عباس هاشم بوسطة "عين الرمانة" على حمدان لم يتردد في الحصول عليها. كان يعرف القيمة المعنوية لهذه البوسطة.

أخفى حمدان البوسطة خمس سنوات كاملة عن العيون إلى أن جاءه ذات يوم فريق تصوير تلفزيوني طالباً تصوير البوسطة. الصحافيون يحبّون ما يذكرهم بالأحداث دائماً.

بعد ذلك عرض حمدان البوسطة في معارض مختلفة. معارض ترتبط كلها بذلك اليوم المشؤوم: 13نيسان 1975.

اليوم، تستريح بوسطة عين الرمانة الـ"دودج" موديل 1958، على تلّة صغيرة في بلدة شوكين الوديعة التي تقع في قضاء النبطية، جنوب لبنان. وضع حمدان البوسطة في أرض قرب منزل شقيقته. يحلم لها بمكان خاص بها يكون معرضها الدائم وتعلّقُ فيه صور الحرب "كي تكون عبرة لمن اعتبر".

البوسطة التي لم تصل وجهتها في ذلك اليوم إلى "مخيم تل الزعتر"، الذي عاد وسقط بعد معركة شهيرة، تستريح اليوم بين النباتات البرّية من زعتر أخضر وبلّان. صارت هيكلاً صدئاً تنسج عليه العنكبوت قصة صارت عنواناً لفتنة اللبنانيين الدائمة.

فحتى اليوم، ورغم مرور كل تلك الفترة ورغم أن البوسطة ما عادت صالحة للسير، إلا أنها ما زالت تدور متخفّية بأشكال أخرى في الوطن الذي طالما شكّل أرضاً خصبة لحروب عبثية وساحة خلفية لصراعات أكبر من حجمه بكثير.

تسير البوسطة في كل المناطق، وتمر في الزواريب، باحثة عن فتنة تكون وقوداً لمعركة جديدة. تسيرالبوسطة ويركض اللبنانيون خلفها. واللبنانيون لا يتعبون من الركض.