مقابر غزة... الاحتلال ينتقم من رفات مئات الشهداء

مقابر غزة... الاحتلال ينتقم من رفات مئات الشهداء

18 ديسمبر 2023
يمنع الاحتلال الوصول إلى معظم مقابر قطاع غزة (مصطفى حسونة/ الأناضول)
+ الخط -

صدم عدد من سكان مخيم جباليا بعد انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من حدود المخيم الغربية عندما اكتشفوا آثار توغل آلياته العسكرية داخل مقبرة "الفالوجا"، وتدنيس عدد من القبور وإخفاء ملامح بعضها الآخر. ولدى مقبرة الفالوجا مكانة كبيرة بالنسبة لسكان بلدة جباليا وسكان مخيم جباليا، وهو أكبر مخيمات قطاع غزة الثمانية، وهي مقبرة تاريخية دفن فيها الأجداد الذين هجروا خلال نكبة عام 1948، وعاشوا في المخيم حتى وفاتهم، كما دفن فيها مئات الشهداء وشخصيات اعتبارية بالنسبة للسكان.

يقدر الشهود الذين لم يغادروا شمالي قطاع غزة أن عشرات القبور تم طمسها بالكامل وتدمير شواهدها، من بينها قبر عمر مهنا، والذي يقول ابنه عماد مهنا (51 سنة)، إن قبر والده على بعد عشر خطوات من الشجرة القائمة على الطرف الشمالي لحدود المقبرة. تلقى مهنا الخبر من أحد الجيران بعد انسحاب مركبات الاحتلال الإسرائيلي قبل خمسة أيام، وعندها كان يتفقد بعض منازل المخيم التي تعرضت للقصف، فأسرع إلى المقبرة، ليصدمه تغير كل معالمها وتدمير أسوارها وجرف الشارع المؤدي إليها، والذي تم تمهيده قبل عامين فقط.
يقول مهنا لـ"العربي الجديد": "وجدنا داخل المقبرة عدة ممرات عميقة تظهر مسارات تحرك آليات جيش الاحتلال، والتي أحدثت خراباً كبيراً ودمرت العديد من القبور، وظهرت بعض الهياكل العظمية على سطح الأرض، وهناك قبور تم خلع شواهدها، ويظهر أنها منزوعة بالجرافات. والدي دفن في المقبرة عام 1993، وعدد من أفراد العائلة دفنوا فيها، وبعضهم شهداء، وكانت المقبرة مزاراً يومياً للكثير من الغزيين، الذين كانوا يجلسون بالقرب من مقابر ذويهم لقراءة القرآن، وفيها عدد من أقدم أشجار المخيم، وقام الاحتلال بخلع واحدة منها يعتقد أن عمرها أكثر من 40 سنة".

تضم مقبرة الفالوجا في جباليا رفات المئات من المهجرين خلال النكبة

يشدد مهنا على أن "الآثار تدلل على تعمد تخريب المقبرة، وكذلك العبث بمحتوياتها، ولن أستغرب أن يكون الاحتلال قد سرق بعض الجثامين لأن أحد القبور القريبة من قبر والدي دفن فيه شهيد في هذا العدوان، ولم نجد بقايا الجثمان أو الكفن، والعديد من سكان المخيم يعتقدون أن الاقتحام مقصود، وهدفه الوصول إلى الجثامين لسرقتها أو العبث بها". 
واعتدى الاحتلال خلال توغله في مناطق شمالي القطاع ومدينة غزة على عدد من المقابر الكبيرة، ودنس عدداً منها عبر آلياته العسكرية التي دمرت الكثير من قبور الغزيين، وبعضها عمره عشرات السنين، وتمثل قيمة كبيرة لأسر المتوفين، خصوصاً عائلات الشهداء.
واكتشف الغزيون تدنيس الاحتلال مقبرة بيت حانون، في أقصى شمالي القطاع، وإقامة قاعدة عسكرية فيها للتوغل في المباني السكنية المحيطة والقريبة من معبر "إيرز" الحدودي.

الصورة
آثار الدمار الكبير في مقبرة الفالوجا (فادي الوحيدي/الأناضول)
آثار الدمار الكبير في مقبرة الفالوجا (فادي الوحيدي/الأناضول)

ودمر الاحتلال أجزاء من المقبرة المعروفة باسم "المقبرة البرية"، والمسجلة لدى وزارة الأوقاف الفلسطينية في غزة باسم مقبرة الشيخ رضوان، والتي تقع بين حي النصر وحي الرمال في مدينة غزة، ويتجاوز عمرها 100 عام، وتعتبر أكبر مقبرة في القطاع، ودفنت فيها شخصيات فلسطينية اعتبارية، مثل الشيح أحمد ياسين، مؤسس حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، ورئيس الحركة الراحل عبد العزيز الرنتيسي، والشهيد محمد الأسود، أحد أبرز المقاومين التابعين للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، والملقب باسم "جيفارا غزة".

كما دمر الاحتلال المقبرة الشرقية المطلة على شارع صلاح الدين، شرقي بلدة جباليا، والتي شاهد عشرات من النازحين وجود المركبات العسكرية فيها. يقول محمود عساف (31 سنة)، وهو من سكان بلدة جباليا، إن المقبرة تضم رفات جده المدفون قبل 20 عاماً، ودفن فيها معظم أفراد أسرته بناءً على وصيتهم بجوار قبر جده، وكل هذه القبور دمرت.

أقام جنود الاحتلال قاعدة عسكرية في وسط مقبرة بيت حانون

يضيف عساف، متحدثاً لـ"العربي الجديد": "خلال العدوان الإسرائيلي في عام 2014، قصف الاحتلال المقبرة ودمر عددا من القبور القديمة فيها، والتي كانت معروفة بتصميمات تذكارية مرتفعة عن الأرض. ثم كرر قصفها في العدوان الحالي. بينما كنا ننزح باتجاه جنوبي القطاع، شاهدت آثار التدمير الواضحة لعدد كبير من القبور، وأعتقد أن غالبية قبور عائلتي دمرت، لأنني عندما كنت أقف على طرف الشارع في السابق، كنت أشاهد قبور العائلة بارزة".
يضيف: "شاهدت خلال نزوحنا أكواماً من الرمال، ومركبات عسكرية كثيرة، وكان ذلك خلال فترة الهدنة في نهاية الشهر الماضي، وقد خرجنا رافعين الرايات البيضاء، وكانت قوات الاحتلال قريبة من مكان المقبرة، وشاهدت الشجرة الكبيرة التي كانت أمام مدخل المقبرة مدمرة. انتهكوا حرمة الأموات تحت الأرض، وقتلوا البشر والشجر فوق الأرض".
وتعرضت مقبرة "الشهداء" في بلدة بيت لاهيا للتدمير، وأيضاً مقبرة "علي بن مروان" في حي التفاح، شرقي مدينة غزة، ومقبرة "القديس برفيريوس" المسيحية، والتي دفن فيها عدد من الشخصيات المسيحية المهمة في تاريخ القطاع، كما جرى تدمير مبنى الكنيسة المجاور للمقبرة.


ودمر الاحتلال مقبرة "الشيخ شعبان" في حي الزيتون، شرقي مدينة غزة، وهي المقبرة التي كان يقيم فيها عدد من الأسر الغزية ضمن مساكن عشوائية. تفقد عمر صيام (35 سنة)، وهو من سكان حي الزيتون، منازل الحي خلال فترة الهدنة قبل نزوحه مع عائلته إلى مدينة رفح، ويقول لـ"العربي الجديد": "دنسوا قلب المقبرة، ودمروا قبر جدي هلال صيام، وعدد من قبور عائلتي وعائلة والدتي، وقد حزنت والدتي بشدة عندما علمت بذلك، إذ كانت تزور المقبرة بشكلٍ أسبوعي، وتشعر بالراحة عند قبر والدها. كما دمروا منازل العشوائيات المجاورة لها، والتي كان سكانها رغم ضغوط البلدية عليهم للإخلاء يحافظون على نظافة المقبرة حتى تتغاضى شرطة البلدية عن إجبارهم على المغادرة، وهم من بين أشد الأسر فقراً".
وأدان المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان الاستهداف الإسرائيلي المتكرر للعديد من مقابر قطاع غزة وإلحاق دمار واسع بها ونبش وتخريب بعض القبور، ووثق المرصد هجمات إسرائيلية طاولت غالبية مقابر القطاع، وخلفت حفراً كبيرة بداخلها، مع وجود شبهات حول سرقة جثث، أو سرقة أعضاء من جثث يعتقد أنها تعود لنشطاء فلسطينيين.
ورصد المرصد الأورومتوسطي إنشاء أكثر من 120 مقبرة جماعية عشوائية في محافظات قطاع غزة لدفن شهداء الهجمات الإسرائيلية في ظل صعوبة الوصول إلى المقابر الرئيسية، والاستهداف الإسرائيلي المستمر للمقابر ومحيطها، مشيراً إلى لجوء عائلات إلى إنشاء مقابر جماعية عشوائية داخل الأحياء السكنية وأفنية المنازل والطرقات لدفن ذويهم.

وقال الحقوقي إبراهيم شاهين إن "جيش الاحتلال ارتكب انتهاكات عدة يمكن تصنيفها كجرائم حرب، إذ قام بانتهاك بنود اتفاقية جنيف الثالثة، واتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب، والتي تنص على أنه يجب دفن الموتى إذا أمكن وفقاً لشعائر دينهم، والبروتوكول الأول الإضافي في اتفاقيات جنيف لعام 1977، والذي يعتبر أن التدمير المتعمد للمواقع الدينية من دون ضرورة عسكرية هو جريمة حرب محتملة". ويشير شاهين إلى انتهاك الاحتلال عدة مواد في القانون الدولي الإنساني العرفي، من بينها انتهاك "القاعدة 116" التي تنص على التدابير الخاصة بالبحث عن الموتى، وجمعهم، والتعامل معهم، وإعادة رفاتهم، و"القاعدة 113" التي تنص على أن يتخذ كل طرف في النزاع كل الإجراءات الممكنة لمنع سلب الموتى، ويحظر تشويه جثث الموتى، وكذا "القاعدة 115" التي تنص على أن تعامل جثث الموتى بطريقة تتسم بالاحترام، وأن تحترم قبورهم، وتصان بشكل ملائم.
ويقول لـ"العربي الجديد": "بالاستناد إلى تلك القوانين، فإن الاحتلال اعتدى بشكل مباشر على المقابر، ودنسها، وفتح بعض القبور، وتصنف كل هذه الأفعال المتعمدة مع سبق الإصرار والتكرار على أنها جرائم حرب، لأن نصوص المواد تحدد الضرورة العسكرية، فمثلاً لا يوجد أي دليل على استخدام عسكري لمقبرة الفالوجا في جباليا، ورغم ذلك قام الاحتلال بتجريفها وتدنيسها".

المساهمون