مدينة سراييني... اكتشافات لتغيير تاريخ تركيا "تحت الأرض"

مدينة سراييني... اكتشافات لتغيير تاريخ تركيا "تحت الأرض"

28 أكتوبر 2023
مزيد من الاكتشافات المفاجئة في مدينة سراييني تحت الأرض (سيرهات سيتينكايا/ الأناضول)
+ الخط -

الخوف من الظلم واستقواء الجيوش والحكّام يدفع الأشخاص المسالمين الساعين إلى الحياة إلى تدبر أمورهم خشية التعرض لغزو أو اعتداء مفاجئ يقضي على الأحلام ووسائل الرفاهية والعيش الهادئ التي أوجدوها، وهذا ما يفسّر على الأرجح تشييد مدن ومخابئ تحت الأرض التي تكتشف حول العالم بين حين وآخر.
شُيّدت مدينة سراييني التي اكتشفت قبل عامين في ولاية قونيا، وسط تركيا، بهدف احتواء المخاوف والتحصّن من الغارات حين كان الحكم البيزنطي يُطبق نهج الاستقواء للتوسّع والبقاء، خصوصاً في مطلع عهده. وما اكتشفته فرق التنقيب عن الآثار على التوالي خلال عمليات التنقيب في مدينة سراييني، أخذهم إلى أبعد من مجرد اعتبار المدينة نفقاً أو مغارة تهدف إلى الاحتماء خلال الحروب وحالات الطوارئ، إذ أظهرت اكتشافات جديدة ملامح مدينة متكاملة وتاريخية يعود تاريخها إلى العصر الروماني تؤمن لقاطنيها كل سبل الديمومة والراحة وحتى الرفاهية فضلاً عن الأمان. 

وكان فريق تنقيب تابع لوزارة الثقافة والسياحة التركية الذي يعمل في الموقع بالتعاون مع بلدية ساري أونو قد حدد في بداية مشوار الاكتشاف مساحة مدينة سراييني بـ20 ألف متر مربع تحت الأرض، لكن يرجح وجود إضافات ومفاجآت تضع سراييني في مستوى مدن أخرى تحت الأرض في تركيا، مثل ديرينكويو، وآيدن تبه، وشبه الجزيرة التاريخية بإسطنبول. وبين هذه الإضافات أطلال منازل وصالات ومساحات للمعيشة شبيهة بغرف، وآبار مياه، وأفران، وورش، ومداخن، وأماكن لوضع مصابيح الزيت للإضاءة، وأقبية، ومستودعات، وفتحات للتهوية، يعود تاريخها إلى القرن الثامن الميلادي.
يقول رئيس مجموعة التنقيب وخبير الآثار في المتاحف حسن أوغوز إن "عدد المباني المكتشفة بلغ 30 حتى الآن ضمن مساحة 20 ألف متر مربع"، لكنه يستدرك في حديثه لوكالة أنباء "الأناضول" بأن "ممرات وأنفاقاً وصالات عدة تنتظر تنظيفها من الرمال والأتربة المتراكمة منذ مئات السنين". ويؤكد أوغوز أن المناطق التي تشهد أعمال تنقيب تتوسع أكثر وأكثر في ظل تتالي الاكتشافات الجديدة في المنطقة، ويوضح أن "الاكتشافات الأخيرة لباحثي الآثار تشير إلى احتمال أن تكون مدينة سراييني أكبر مدينة مبنية تحت الأرض في تركيا".
وفي شأن طبيعة العمران والتصميم في مدينة سراييني، يشرح أوغوز أن "الاكتشافات تظهر أن الهندسة المعمارية الأفقية المستخدمة في بناء المدينة كانت مميزة وتحتوي على فنون متطورة، وقد اكتشفنا هذا العام ممراً واسعاً جداً يمكن وصفه بأنه شارع رئيسي يتضمن العديد من الصالات على جانبيه، كما يحتوي المكان على أنفاق وممرات يرتبط بعضها ببعض".
ويعلّق بأن "المفاجأة تمثلت في عدم اعتقاد المنقبين أن المدينة يمكن أن تكون قائمة على مساحة كبيرة. وهم تبلغوا من عدد من كبار السن في المنطقة أنهم كانوا يدأبون على زيارة المكان خلال سنوات الطفولة، وأن المساحة تحت الأرض كبيرة جداً".
وبحسب أوغوز، لم تكن أحاديث كبار السن الدليل الوحيد لرصد المكان، إذ أشار الرحالة الأوروبيون في القرن التاسع عشر إلى المنطقة باسم سراييني، وهي عبارة عن دهاليز كبيرة تشبه القصر على صعيد التصميم والبنية المعمارية الفسيحة والمريحة والمترابطة، لذا أطلق عليها اسم سراييني بالتركية، أي دهاليز القصر.
وحول وصف المدينة بأنها "اكتشاف غير عادي"، يشرح أوغوز أن فرق التنقيب "أكدت أن المكان يثير الاهتمام، ولا يشبه كل المناطق المكتشفة الأخرى، وهو جدار مبني من كتل بعضها طبيعي وآخر صناعي باعتماد تقنية العمارة الجافة. وبعدما أزالت الحجارة وأجرت دراسة على المكان لاحظت أن بعض الحجارة كانت عبارة عن شواهد لقبور، وأيضاً من النوع المستخدم في المذبح والتي يتضمن بعضها نقوشاً بديعة، ما زاد حيرتنا من طبيعة المكان، والفريق يواصل العمل الآن من أجل معرفة الدور الذي كان يؤديه هذا المكان".

الصورة
آثار من مدينة سراييني (سيرهات سيتينكايا/ الأناضول)
آثار من مدينة سراييني (سيرهات سيتينكايا/ الأناضول)

وترى أستاذة التاريخ التركية - الأميركية سيهان كارمان، في حديثها لـ"العربي الجديد"، أنه "من الطبيعي أن نرى مدناً تحت الأرض، سواء اندثرت نتيجة تعاقب الحضارات، أو بُنيت تحت الأرض في الأصل، كما حال مدينة سراييني المكتشفة حديثاً في قونيا". 
وتصحح مقولة إن تركيا شهدت تعاقب أربعة حضارات فقط، هي الرومانية والبيزنطية والسلجوقية والعثمانية، وتتحدث عن تعاقب سبع حضارات على تركيا الحديثة هي: الحثية والفريغية واليونانية والرومانية والبيزنطية والسلجوقية والعثمانية، وتشير إلى أن مدينة أموريوم بولاية أفيون قره والآثار التي وجدت تحت مدينة سراييني تدل على ذلك". تضيف: "قونيا أقدم من أفيون، وتحدد الدراسات والمكتشفات تاريخها إلى 7000 عام قبل الميلاد رغم أنه لم يُسلط عليها الضوء إلا في أيام السلاجقة الذين أتخذوا المدينة عاصمة لهم".
وتبقى ولاية كابادوكيا، برأي سيهان، أهم عجائب تركيا فوق الأرض وتحتها، وتتضمن مدناً وكنوزاً لم تكتشف بعد، والتي يمكن أن تغيّر ما كتب في التاريخ، كما فعل معبد غوبكلي تبه الذي يعد من أقدم دور العبادة في العالم، والذي بني قبل الأهرامات بمصر.
ويعتبر موقع غوبكلي تبه الجبلي في ولاية شانلي أورفا المجاورة لمدينة الرقة السورية، أقدم معبد في العالم، إذ يعود تاريخ بنائه إلى أكثر من 12 ألف عام، ويحتوي على أقدم المنشآت المعمارية حول العالم، ويوصف بأنه "نقطة انطلاق التاريخ".
وكانت تركيا قد اكتشفت العديد من الآثار عام 1995، بينها رسوم وأشكال حيوانية تعود إلى العصر الحجري الحديث، وأطلال معبد غوبكلي تبه الذي يعد أحد أقدم دور العبادة في العالم.
وعام 2018، أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو) موقع معبد غوبكلي تبه في قائمة التراث العالمي، وهو يضم أقدم مجموعة من المباني الصخرية في شمال بلاد الرافدين، ويمتد تاريخها إلى 12 ألف عام.
واليوم بعد مسح الغبار عن المكتشفات في مدينة سراييني، تتقدم قونيا، الضاربة في التاريخ، خطوة إضافية نحو جذب الأنظار، علماً أنها تعد نموذجاً يحتذى به في ما يتعلق بالعيش البسيط والمتواضع، والذي يمكن رؤيته في كثير من مجالات الحياة، فمثلاً تجذب منازلها التقليدية الانتباه بتصاميمها البسيطة، ويتم اختيار المواد المستخدمة من مصادر طبيعية ومحلية.
وتشتهر منازل قونيا بأنها مبنية بالطوب الأحمر الذي يوفر حماية من الحرارة خلال فصل الصيف، ويحفظ الدفء خلال فصل الشتاء. وتوجد مجموعة من البيوت مفتوحة للزوار كمتحف لاستعراض تصاميم المنازل والعادات التقليدية التركية القديمة.

قضايا وناس
التحديثات الحية

وتضاف مدينة سراييني التاريخية تحت الأرض إلى متحف "مولانا" جلال الدين الرومي الذي يعد أشهر وجهات السياحة في قونيا بسبب تصميمه المعماري الروحاني الفريد الذي يتضمن قبة خضراء وزخارف ونقوشاً إسلامية، إضافة إلى المشهد المُذهَّب لقبر الرومي أحد أهم مؤسسي الصوفية.
وتنافس مدينة سراييني الجديدة متحف ومدرسة كاراتى التي تعتبر من أقدم معالم مدينة قونيا، وتتكامل بالأهمية والجذب مع تل علاء الدين، الصخرة المدهشة التي تتشكل حولها مجموعة من الحدائق الطبيعية ومزارع الشاي منذ القرن الثالث عشر، علماً أن الولاية تضم أيضاً متحف قونيا الأثري ومسجدي السليمية والعزيزية، وبرج السلاجقة، وحديقة الفراشات، إلى جانب بحيرات قونيا التي توصف بأنها ساحرة، وفي مقدمها بحيرة بيه شهير.

المساهمون