صدمة ترحيل آلاف المصريين من ليبيا سيراً على الأقدام

صدمة ترحيل آلاف المصريين من ليبيا سيراً على الأقدام

18 يونيو 2023
مشاهد مهينة لترحيل المصريين من ليبيا (فيسبوك)
+ الخط -

في أول استراحة على الطريق المؤدي من ليبيا إلى الأراضي المصرية، جلس سامح عوض وسط آلاف من المصريين العائدين من الشرق الليبي على الأرض الملتهبة بسبب حرارة شمس الصيف، محاولاً تضميد قدميه المتضررتين من السير لعشرات الكيلومترات، بعد ترحيله مع آخرين من معسكرات تابعة للواء المتقاعد خليفة حفتر، عقب إخراجهم من معسكرات أخرى تابعة لعصابات تهريب البشر.
بعد أيام، بلغ سامح قريته التابعة لمركز كفر الدوار بمحافظة البحيرة (شمال غرب)، وظل لنحو يومين نائماً في بيته بعد رحلة مرهقة جسدياً ونفسياً. يقول: "في الوطن معاناة، وفي الغربة معاناة أشد، ولكن ما الحيلة؟ الأسرة تحتاج إلى من يعيلها في ظل قلة فرص العمل".
لا تزال قدماه متورمتين، وتُبدي ملامح وجهه آثار الألم الناتج عن الرحلة القاسية التي أثارت الكثير من التساؤلات حول مصائر هؤلاء المرحّلين، وكيف عادوا كل هذه المسافة التي تقدَّر بمئات الكيلومترات بينما أغلبهم لا يملكون نفقات العودة. وما رد فعل الحكومة المصرية تجاه ما تعرضوا له؟ وماذا ستفعل منعا لتعرض مزيد من المصريين لما تعرضوا له مستقبلاً؟
يقول سامح عوض لـ"العربي الجديد": "مشيت مع بقية المرحّلين لمسافات طويلة من معسكر بمدينة مساعد، حيث عثرت علينا قوات حفتر، بعد اشتباكات مع عناصر قبلية ومعارضين، حينها اقتحمت القوات المعسكر بشكل عنيف، ما أدى إلى إصابة كثيرين، ثم اقتادتنا إلى مكان مجهول قبعنا فيه لساعات طويلة تعرضنا فيها للعديد من الإهانات والضرب، قبل أن تأمرنا تلك القوات بالسير على الأقدام باتجاه الحدود المصرية".
سيد الخولي، مصري آخر مرحّل من ليبيا، ويؤكد لـ "العربي الجديد"، أن "كنا نحو ألفي مصري، وسرنا عشرات الكيلومترات على الأقدام، ثم جرى نقلنا عبر شاحنات لمسافات أخرى، وتم تسليمنا إلى أجهزة الأمن المصرية التي قامت بالكشف عن الهويات".

ينتمي الخولي إلى إحدى قرى محافظة القليوبية (شمالي القاهرة)، يضيف: "دخلت الأراضي الليبية عبر الحدود البرية بشكل غير مشروع بعدما دفعت مبلغاً يتجاوز 140 ألف جنيه (نحو 4500 دولار)، وكان هدفي الوصول إلى إيطاليا، وأمضيت ثلاثة أسابيع في مدينة مساعد الليبية حتى يعد القائمون على الرحلة البحرية القوارب اللازمة لعبور البحر المتوسط. عقب اكتشاف قوات حفتر مكاننا، قاموا باحتجازنا، ثم ترحيلنا، واعتقلت القوات المصرية نحو مائتي شخص صادر ضدهم أحكام، وبعضهم هاربون من الخدمة العسكرية، وكلنا ضاع حلمنا بالوصول إلى أوروبا، وضاعت معه نفقات السفر التي تمثل مدخرات العمر".

ويتخذ آلاف من المصريين ليبيا كمحطة عبور إلى إيطاليا، وينجح قليل منهم في العبور، بينما يتعرض كثيرون للخديعة من المهربين، فيمكث في ليبيا باحثاً عن عمل، وآخرون يُعتقلون في منتصف الرحلة، فيجري ترحيلهم إلى مصر. وتقدر دوائر الهجرة أن ما يقرب من ثلاثين ألف مصري تمّت إعادتهم من ليبيا خلال العام الماضي وحده.
تبدأ رحلة المهاجر المصري غير الشرعية إلى ليبيا بعد مقابلة سماسرة أو وسطاء ينظمون تلك الرحلات بعد تقاضي مبالغ تتراوح بين 140 و200 ألف جنيه (4500 إلى 6500 دولار) من كل شخص. وتحدد قيمة المبلغ طبقا  للتسهيلات التي ستُقدم لهم خلال رحلة انتقالهم إلى الضفة الشمالية للبحر المتوسط، أو حسب المدة التي سيقضونها في الطريق، والكيفية التي سيصلون بها.



ووفق تقارير صحافية، إن شريحة واسعة من المصريين تبدأ من عمر 16 إلى 45 سنة، تسعى إلى الخروج من البلاد بأي وسيلة، والأيسر من بينها إلى ليبيا ومنها إلى أوروبا. ويبلغ نصيب الوسيط نحو 10 في المائة من جملة المبلغ المدفوع، ويتوزع الباقي على عدد من المشاركين في العملية، وبعضهم من قبائل ذات نفوذ على الحدود المصرية الليبية.
يمضي راغبو الهجرة ما يقارب الشهر في ليبيا إلى حين ترتيب رحلة وصولهم إلى السواحل الإيطالية، وبعضهم يقرر البقاء للعمل في ليبيا، أو العودة إلى مصر. يتكرر هذا السيناريو منذ سنوات. لكن الجديد كان الإهانات التي تلقاها المصريون المرحّلون، والحرص على تصويرهم في هذه الأوضاع، ونشر الصور ومقاطع الفيديو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتبدو تلك المقاطع مصورة من جانب قوات حفتر، ما يرجح فرضية التعمد.
ويرجع متابعون الإجراءات التعسفية ضد المهاجرين المصريين إلى توتر علاقات حفتر مع القاهرة خلال الأشهر الماضية، بعدما تراجع وزنه الاستراتيجي لدى داعميه المصريين عقب فشل حملته للسيطرة على طرابلس في إبريل/نيسان 2019، علاوة على سلوكه المنفرد ضد المصالح المصرية في عدد من الملفات، وخاصة الملف السوداني، إذ يدعم قوات الدعم السريع المناوئة للجيش السوداني الذي تؤيده القاهرة.
وبدأت السلطات المصرية الانفتاح على قوى ليبية مختلفة متجاوزة حفتر، وطورت علاقاتها أخيراً مع حكومة الوحدة الوطنية الليبية بقيادة عبدالحميد الدبيبة، والتي أبرمت معها صفقات بمليارات الدولارات ضمن مشاريع الأعمار، وعلى رأسها الطريق الدائري للعاصمة طرابلس.

ويرى متابعون أن هدف حفتر من نشر مشاهد للمرحّلين المصريين وهم يسيرون كالأسرى هو إثارة الرأي العام المصري ضد الحكومة، وإظهارها بمظهر العاجز عن التعامل مع هذه التجاوزات. وبحسب تقارير صحافية، فإن حفتر يستخدم المهاجرين عموماً كورقة ضغط على الجانب الأوروبي، وفي ذات الوقت يحاول استخدام العمال المصريين لمساومة القاهرة من أجل العودة مجدداً للرهان عليه في الصراع الليبي.
ويقول المحلل الليبي عصام الزبير، لـ"العربي الجديد"، إن "أزمة المهاجرين المصريين غير الشرعيين تكمن في توتر العلاقات بين القاهرة وخليفة حفتر، وهو ما ظهر جلياً في اتجاه مصر إلى توثيق علاقاتها مع حكومة الدبيبة عبر عقود للشركات المصرية تجاوزت 3 مليارات دولار. حفتر يتعسف مع العمال المصريين عموماً رغم أن الكثيرين منهم يحملون وثائق إقامة شرعية، وذلك من أجل  الضغط على القاهرة للكف عن توثيق الصلات مع حكومة الدبيبة".
وانتقد الزبير انتهاك قوات حفتر للمعايير الإنسانية في التعامل مع المهاجرين، وخصوصاً المصريين، وذلك عبر إخفائهم قسرياً، ثم ترحيلهم بشكل مهين، مؤكداً أن "عدم اتخاذ القاهرة موقفاً قوياً تجاه ما قام به حفتر سيغريه باستخدام العمالة المصرية مجدداً لابتزاز السلطات المصرية".
بدورها، أكدت وزيرة الشؤون الاجتماعية الليبية السابقة، سميرة الفرجاني، لـ"العربي الجديد"، أن "حفتر لا يعبأ بأي معايير لحقوق الإنسان، وبالتالي لن تكون لديه رأفة بمواطنين قادمين من أبرز بلد دعمته، وعلى الأرجح فإن موقفه ذلك جاء رداً على تقلّص دعم القاهرة له خلال الفترة الأخيرة". وتستدرك الفرجاني أن ذلك لا يعني نهاية التحالف بين حفتر والقاهرة، موضحة أن "عدم وجود رد فعل على انتهاكاته المتكررة جعله يقدم على هذه الجريمة من دون أن يعبأ بأية عواقب، فلو كان يتوقع أي رد فعل مصري قوي ضد إساءاته البالغة للمهاجرين المصريين لما كان يقدم على هذه الجريمة"، حسب تعبيرها.

ويفسر مراقبون عدم اتخاذ الحكومة المصرية إجراءات قوية ضد ما فعله حفتر بمواطنيها، باستشعار الحرج في هذا الملف الحساس بالنسبة للدول الأوروبية، إذ تخشى القاهرة أن يستثمر حفتر احتجاجها على سلوكياته ليقوم بتسويقه لدى حكومات أوروبا على أنه "تساهل مصري" في مقابل تشدده في ملف الهجرة السرية.
وقدم الاتحاد الأوروبي للقاهرة نحو 100 مليون يورو لتطوير نظم مراقبة الحدود مع ليبيا. في المقابل، تقوم الحكومة المصرية بحملات واسعة ضد منظمي رحلات الهجرة غير المشروعة إلى أوروبا، وأوقفت الأجهزة الأمنية عدداً كبيراً منهم في العديد من المحافظات بتهم الاتجار بالبشر.
ويقلل مراقبون من جدوى الاقتصار على التعامل الأمني في مواجهة ظاهرة الهجرة السرية المتصاعدة بفعل الضغوط الاقتصادية الخانقة، خصوصاً على الشباب، في حين أن الوسطاء يحققون أرباحاً طائلة من رحلات الهجرة غير الشرعية، بينما المطلوب هو بدائل شاملة توفر للشباب فرص عمل تتيح لهم حياة كريمة، مع تيسير عمل شركات العمالة الشرعية.

المساهمون