تخاذل المنظمات الدولية... تسليم أهالي غزة للاحتلال تحت التهديد

تخاذل المنظمات الدولية... تسليم أهالي غزة للاحتلال تحت تهديد النار

09 فبراير 2024
لم توفر المنظمات الأممية الحماية للغزيين (داود أبو الكاس/الأناضول)
+ الخط -

طُرحت تساؤلات كثيرة حول أدوار المنظمات الإنسانية الدولية في قطاع غزة منذ بدء العدوان الإسرائيلي، والكارثة الإنسانية غير المسبوقة، في مقابل اقتصار دورها على تقديم بعض المساعدات في مناطق الجنوب

يعتمد الاحتلال الإسرائيلي سياسة التجويع بحق أهالي غزة، منذ بدء العدوان على القطاع في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، مع الكثير من الأفعال الإجرامية مثل قصف المستشفيات، ويشكّك كثيرون في أدوار المنظمات الإغاثية والإنسانية، بما فيها التابعة للأمم المتحدة، بالتزامن مع شعور أهالي غزة بالخذلان. 
حتى في خارج القطاع، كثر التشكيك في قدرة هذه المنظمات على تخفيف المأساة الإنسانية، إلى درجة فقدان الثقة فيها، واعتبارها خاضعة أولاً للسياسة الخارجية للدول النافذة، ولاحقاً للحاجات الإنسانية.
في يوم 13 أكتوبر، وبعد أيام قليلة على بدء العدوان، غادرت قوافل سيارات المنظمات الدولية العاملة في قطاع غزة، وفي مقدمتها الصليب الأحمر والأمم المتحدة، مدينة غزة عبر شارع الرشيد (شارع البحر) باتجاه خانيونس جنوباً. استجابت هذه المنظمات للإنذارات التي وجهها إليها جيش الاحتلال بضرورة إخلاء المنطقة الشمالية، فأعلنت رسمياً وقف خدماتها الصحية والإغاثية والإنسانية بشكل كامل في الشمال، وترك أكثر من مليون غزي عرضة للإبادة.
في مساء 17 أكتوبر الماضي، ارتكب جيش الاحتلال مجزرة مستشفى المعمداني في مدينة غزة، والتي أوقعت نحو 471 شهيداً ومئات الجرحى. كان الأهالي قد تواصلوا مع الصليب الأحمر للاستفسار عن مدى إمكانية الاحتماء في المستشفى المحمي بموجب القانون الدولي، فأكد لهم ذلك، الأمر الذي شجع مئات الأسر على التوجه إلى هناك قبل ساعات من القصف.  
واتهمت حركة حماس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" ﺑ "التواطؤ" مع الاحتلال في تمرير "النزوح القسري"، وقال رئيس المكتب الإعلامي الحكومي، سلامة معروف: "نؤكد أن تخاذل أونروا ومسؤوليها عن دورهم الواجب هو تواطؤ واضح مع الاحتلال ومخططاته بالتهجير القسري".

مراجعة الدور الإنساني للمنظمات الدولية في قطاع غزة ضرورة ملحة

من جهة أخرى، اتّهم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، والعديد من مسؤولي الهيئات الدولية، بتوجيه انتقادات إعلامية خجولة لقرار الاحتلال بتهجير سكان القطاع. وكان غوتيريس قد قال إن "نقل أكثر من مليون شخص في غزة وفق أوامر الجيش الإسرائيلي، عبر منطقة حرب مكتظة بالسكان إلى جنوب القطاع، حيث لا يوجد غذاء أو ماء أو أماكن إيواء، أمر خطير للغاية وقد لا يكون ممكناً في بعض الحالات".
فيما قال المفوض العام لأونروا فيليب لازاريني، إن "دعوة القوات الإسرائيلية لنقل أكثر من مليون مدني يعيشون شمال غزة خلال 24 ساعة، أمر مروّع، ولن يؤدي سوى إلى مستويات غير مسبوقة من البؤس، ويدفع الناس في غزة بشكل أكبر إلى حافة الهاوية".
وفي مقابلة سابقة للطبيب غسان أبو ستة مع "العربي الجديد"، وجّه اللوم إلى عدد من المنظمات الدولية، قائلاً: "الصليب الأحمر الدولي مثلاً كانت مهمته تأمين إجلاء الأطفال الخدج من مجمع الشفاء الطبي، لكنه ترك بعضهم يموتون، وخلال عملي في المستشفى المعمداني، كان يفترض به أن يعمل على توفير الأدوية، لكنه لم يكن يفعل ذلك، وكنا نعتمد على الهلال الأحمر الفلسطيني في توفير ما تيسر من الأدوية. في البداية، لم أكن أستوعب أسباب عدم قدرة منظمة الصحة العالمية على منع اعتقال الاحتلال للطبيب محمد أبو سلمية، مدير مجمع الشفاء، ولماذا لا يتدخل الصليب الأحمر للإفراج عنه، ثم تذكرت أن هذه كلها من أدوات السيد. هناك قبول كامل للهيمنة الإسرائيلية، إلى درجة أن الصليب الأحمر لا يستطيع إيصال الأدوية إلى فريقه في المستشفى الأوروبي، حتى أنهم لا ينتقدون ذلك علناً".

ويطرح كل هذا تساؤلات عدة حول دور هذه المنظمات في أوقات الصراع، وقدرة القانون الدولي الإنساني على توفير الحماية لها ولطواقمها خلال أي نزاع مسلح، إذ يفترض أن تستفيد هذه المنظمات من استخدام الشارات الحمائية التي تعترف بها اتفاقيات جنيف.
يقول رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني وعضو مجلس الأمناء في المعهد الكندي لدراسات الشرق الأوسط، صلاح عبد العاطي، لـ "العربي الجديد"، إن "العدوان الإسرائيلي جاء مفاجئاً للجميع، وكان غير مسبوق من حيث كثافة النيران المستخدمة والجنون والانتقام. الاحتلال لا يهتم بالقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، واستجابة المنظمات الدولية لأوامر إخلاء شمالي قطاع غزة مشكلة حقيقية تخالف دورها. انسحبت أونروا والصليب الأحمر من الشمال، وتركتا المدنيين لجرائم جيش الاحتلال، كما عجزتا عن تقديم أية مساعدة حقيقية للسكان، أو حتى إجلاء جثامين الشهداء، وينسحب الأمر على كل المنظمات الدولية".
يتابع عبد العاطي: "نتيجة للاجتياح البري، عجزت المنظمات الدولية عن القيام بأي شيء، وبقي المواطنون يناشدون، ما سبّب معاناة حقيقية. يعيش أهالي الشمال مجاعة حقيقية، ويتعرضون لانتهاكات كارثية. رغم ذلك، تعجز هذه المنظمات عن تقديم الحد الأدنى من المساعدات، كما تم إطلاق النار على القوافل ليتوقف إرسال المساعدات. رأينا عمل المنظمات في نزاعات سابقة في مختلف البلدان، وإنزالها مساعدات جوية وبحرية للالتزام بدورها، لكن دورها كان ضعيفاً في قطاع غزة خلال العدوان الحالي، وأرجع ذلك إلى سببين، الأول هو حجم إجرام دولة الاحتلال، والثاني هو منعها المنظمات القيام بدورها على الأرض بالقوة. حتى خلال التنسيق مع أطراف مختلفة لدخول وفود من منظمات أو مساعدات، كان الاحتلال يُطلق النار عليها".

الصورة
لم تتمكن الأمم المتحدة ولا الصليب الأحمر من حماية المستشفيات (منتصر الصواف/الأناضول)
لم يتمكن الصليب الأحمر من حماية المستشفيات (منتصر الصواف/الأناضول)

يضيف: "مع تفهّمنا لصعوبة الأوضاع في قطاع غزة، إلا أنه كان الأولى بهذه المنظمات أن تواصل عملها، وتساند ما أمكن رغم عدم اكتراث الجانب الإسرائيلي بكل قواعد القانون الدولي والحماية الممنوحة للصليب الأحمر وغيره، وهناك مشكلة أخرى تتمثل في نقص الطواقم والقدرات لدى بعض المنظمات لتقديم الخدمات. لا مبرر لهذا الانسحاب في ظل هذه الأوضاع الكارثية. سحبت المنظمات طواقمها وأخلت مؤسساتها ومقراتها وانتقلت إلى الجنوب، وكانت تكرر الانسحاب مع كل اجتياح بري، ليبيد الاحتلال السكان، ويقصف مؤسسات الهلال الأحمر، ومقرات الأمم المتحدة".

ويؤكد عبد العاطي: "يجب على المنظمات مراجعة دورها، علماً أنه كان يمكنها فرض واقع مختلف من خلال البقاء، وزيادة طاقتها، والإصرار على تقديم الخدمات الإنسانية لتعزيز حقوق الإنسان، وحماية دورها، وضمان القيام بأنشطة إنسانية تخفف عن الناس. الاحتلال يرفض حتى التعامل مع المنظمات المحايدة، على غرار الصليب الأحمر الذي كان له دور في عملية تبادل الأسرى، ويرفض الإفصاح عن مكان وجود أكثر من 4000 أسير من غزة، ما يعتبره الصليب الأحمر إخفاء قسري. لكن خوف المنظمات على طواقمها دفعها إلى الانسحاب، كما أنها فشلت في حماية موظفيها ومقراتها، ولا علاقة للأمر بإرادتها، بل بالمساحة التي سمح بها الاحتلال، والتي حددت بالنار".

وحول اتهام أونروا بالتواطؤ مع الاحتلال، يقول: "لا أعتقد أن هناك تواطؤ كونها تتعرض للهجوم، ويرغب الاحتلال في إخراجها من القطاع، ويتهمها بمعاداة السامية. هذا استهداف للشعب الفلسطيني لأن الوكالة حارسة حق العودة وحقوق اللاجئين، وأحد أسباب الصمود. في المقابل، تقوم إسرائيل بأوسع عملية إبادة جماعية لسكان قطاع غزة، وتريد إخفاء معالم جريمتها".
ويتحدّث عامل في إحدى المنظمات الدولية الفاعلة في قطاع غزة، فضّل عدم الكشف عن اسمه، لـ "العربي الجديد"، عن سيل من العقبات التي تواجه عمل المنظمات الدولية، والتي لا يُكشف عنها في وسائل الإعلام. ويوضح أنه "منذ بدء العدوان الإسرائيلي على القطاع، تولّت منظمتان قيادة عمليات الإغاثة والمساعدات، هما الهلال الأحمر الفلسطيني ووكالة أونروا، إلا أن القيادة تأتي ضمن آلية تنسيق تشمل العديد من المؤسسات، خصوصاً قطاعات الأمم المتحدة الثمانية. إذا ما أخذنا آلية إدخال المساعدات على سبيل المثال، فإن الآلية تصطدم بمعوقات عدة، فعند الجانب المصري، يتولّى الهلال الأحمر المصري التنسيق وتجهيز المساعدات قبيل إدخالها، والنقطة الأولى التي تدخل إليها المساعدات هي معبر العوجة الحدودي، حيث تخضع الشاحنات للتفتيش، وقد يقرر الاحتلال الإسرائيلي إرجاع الشاحنات لوجود مواد ممنوعة، أو من دون تحديد السبب، وهذا أحد أسباب معاناة أهالي قطاع غزة من الجوع، مع عدم قدرة المنظمات على تحدي قرارات الاحتلال".
وبالإضافة إلى عدم السماح بدخول العديد من الشاحنات، فإن الإجراءات عند هذا المعبر تستغرق وقتاً طويلاً بسبب ضعف قدرته على استيعاب عدد معين من الشاحنات، عدا عن إجراءات الاحتلال التي قد تبدأ من 4 ساعات وتستمر إلى 48 ساعة، وذلك قبل فتح معبر كرم أبو سالم، لكن يشار إلى أن كميات كبيرة من المساعدات لا تزال تحوّل إلى معبر العوجة. تعود المساعدات إلى رفح المصرية بعد التفتيش قبل أن تدخل إلى رفح الفلسطينية، ليستقبلها الهلال الأحمر الفلسطيني وأونروا قبل أن يعاد توزيعها.

الصورة
لم تسلم مقار الأمم المتحدة من القصف الإسرائيلي (فرانس برس)
لم تسلم مقار الأمم المتحدة من القصف الإسرائيلي (فرانس برس)

وجدير ذكره أن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية يشارك في عملية التنسيق أيضاً. ومن الجانب الإسرائيلي، هناك منسق الأنشطة الحكومية في المناطق (COGAT)، وهو وحدة في وزارة الدفاع الإسرائيلية تشارك في تنسيق القضايا المدنية بين حكومة إسرائيل، وجيش الدفاع الإسرائيلي، والمنظمات الدولية، والدبلوماسيين، والسلطة الفلسطينية، وتتولى هذه الوحدة إظهار مدى الجانب الإنساني للاحتلال على صفحته على "تويتر"، وسط اتهامات لأونروا بالكذب.
ويتحدث المصدر عن صعوبة إدخال المساعدات والسير بآليات أونروا كونها الوحيدة القادرة لوجستياً على نقل المساعدات في ظل توفر شاحنات تابعة لها، ما يدفعها إلى إفراغها في أٌقرب نقطة. وفي أحيان أخرى، ينقض الناس على الشاحنات، نتيجة للشعور بالخذلان والضغوط النفسية والجوع وغيرها، ويفرغون محتواها، وهذا ما يفسر معاناة كثيرين الجوع، والسخط على المنظمات، ومحدودية دورها في ظل العراقيل الكثيرة. 
كما يشير إلى وجود عراقيل داخلية، منها الاتفاق على القيادة. وعلى الرغم من وجود آلية عمل واضحة، إلا أنها بقيت هناك مشكلات في الاستجابة للتنسيق، عدا عن القدرة على الوصول، والضغوط السياسية. وهنا يوضح أن أونروا استجابت فوراً لأوامر الإخلاء، فيما رفض الهلال الأحمر الفلسطيني مغادرة كل من مستشفى الأمل والقدس بمدينة غزة، إلى أن تم الإخلاء قسرياً.

وفي ظل القانون الدولي الإنساني، هناك علامة استفهام حول دور المنظمات على الأرض وقدرتها على الضغط لزيادة حجم الإغاثة. وماذا عن دعم الهلال الأحمر الفلسطيني، علماً أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي تستقبل الجزء الأكبر من الأموال، بينما العامل الحقيقي على الأرض هو الهلال الأحمر الفلسطيني؟
وهناك تساؤلات كثيرة ستظهر بعد انتهاء العدوان. هل حجم الأموال الذي أرسل لبى احتياجات الناس، أو أن الجزء الأكبر منه كان عبارة عن خدمات إدارية؟ من جهة أخرى، يشار إلى أن شروط إدخال المساعدات، منها على سبيل المثال لا الحصر، كيفية توضيب السلع، يستغرق وقتاً كثيراً ويؤخر عملية وصول المساعدات.  

لا أجوبة شافية لدى مسؤولة الإعلام في الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مي الصايغ، لكنها تقول لـ "العربي الجديد" إن "دورنا في غزة هو مساعدة الهلال الأحمر الفلسطيني في استجابته من خلال التنسيق، بالإضافة إلى حماية طواقم العاملين لدى الصليب الأحمر والهلال الأحمر وضمان مرور آمن لهم ومن دون معوقات واحترام شارة الهلال الأحمر الفلسطيني ليتمكن من تقديم خدماته الإسعافية وإنقاذ الجرحى. خسرنا 8 من فريقنا خلال تقديمه المساعدات بسبب عدم احترام القانون الدولي الإنساني". 
تضيف الصايغ: "إذا لم توافق أطراف النزاع على منح المنظمات عبوراً آمناً، فلا يمكنها البقاء، وإلا تتحول إلى مشروع قتل. يحق للناس في هذه الأزمات أن تقول إن المنظمات لا تؤدي دورها، لكن في الوقت نفسه لن يسامحها أحد في حال تعرض طاقمها الصحي للخطر". وتوضح أن "قوة الهلال الأحمر الفلسطيني تتمثل في كونه جزءاً من هذا الشعب قبل النزاع وخلاله وبعده، لكن المنظمات الأخرى تحتاج إلى عبور آمن، ثم إلى موافقة السلطات الموجودة على الأرض. هناك معوقات للحركة، ويجب الحصول على ضمانة بعدم التعرض للقصف".
ويمكن القول إن عجز المنظمات الحقوقية والإنسانية والإغاثية يستمر، فالواقع الإنساني الذي تعبّر عنه المنظمات نفسها خير دليل، بينما تكتفي بالمناشدة وتقديم المساعدات في إطار كل القيود المذكورة سابقاً.

المساهمون