الطفل يوسف مغادراً حضن والده

01 نوفمبر 2023
يوسف مع عائلته قبل استشهاده (العربي الجديد)
+ الخط -

ماذا يمكن أن أسأل والد يوسف؟ أعيد تشغيل الفيديو وأراه ثابتاً وصامداً. يوسف (7 سنوات) المدلل والابن الأصغر ذو الشعر "الكيرلي" والأبيضاني (أبيض البشرة) والحلو (الجميل)، كما تصفه والدته التي كانت تبحث عنه بين غرف المستشفى وبين الجرحى. ستقبل به جريحاً وتطبب ألمه وتسهر من أجله كما فعلت دائماً. لكن محمد أبو موسى، وهو أخصائي تصوير أشعة، عرف أن ابنه لم ينج. وخرج من المشرحة مردداً كلمة واحدة: الحمدلله. 
لطالما كان شعر يوسف الكيرلي جزءاً من هويته وشخصيته. حتى أنه رفض طلب إدارة المدرسة بقصه واستعان بوالده للتدخل ودعم موقفه. قابل الوالد محمد لجنة أولياء الأمور في المدرسة للاستفسار عما إذا كان هناك قانون يفرض على التلاميذ قص شعرهم، ويدافع عن خيار ابنه. ونجح، بل نجحا معاً. كان الشرط الوحيد هو الحرص على نظافته. ولم تكن العائلة لتساوم هنا. الجميع كان حريصاً على الاعتناء بشعر يوسف. يذكر محمد أن أحد زملائه في المستشفى مازح يوسف الذي كان يزوره أحياناً خلال فترات الاستراحة، طارحاً عليه خيار تبديل الشعر. طبعاً، رفض يوسف العرض، وكأنه لم يكن على يقين بأنه لا يمكن لهذا العرض أن يكون جدياً. 
أحبّ يوسف شعره الكيرلي، وأراده أن ينمو أكثر فأكثر. وكان يصعب ألّا يعلّق أحد على طبيعة شعره المميزة، في المدرسة أو البيت أو المستشفى أو نادي كرة القدم أو الشارع أو أي مكان.
كان يوسف الأقرب إلى محمد. منذ صغره، عانى من الربو التحسسي، ما جعله ووالدته أكثر اهتماماً به. إصابته بأمراض الشتاء لم تكن سهلة. وما زاد من هذا التقارب هو كونه آخر العنقود فهو الأصغر بين شقيقيه حميد (8 سنوات) وجوري (12 سنة). كان يرفض تناول الطعام قبل أن يجلس في حضن والده. ولم يكن هذا ليزعج الأب على الإطلاق. كان يجلس أيضاً قرب والده حين يلعب ألعاب الفيديو، ويكافئه بلعبة من حين إلى آخر.

يوسف مع شقيقيه (العربي الجديد)
يوسف مع شقيقته وشقيقه (العربي الجديد)

يصف محمد شخصية يوسف بـ "المميزة". وكأنه يتذكّر أن كل والد قد يرى طفله على هذا الشكل، فيقول: "هذا ما أراه وقد لا يكون هذا رأي الآخرين". مميّز ومدلل في آن. الجميع بالنسبة إليه أصدقاء. ما إن يرى أحداً يعرفه حتى يسارع إلى إلقاء السلام وأحياناً فتح الأحاديث. كان شخصية قوية قادرة على الدفاع عن نفسها، ومحبوبة من الجميع في آن. كان على وفاق مع جوري أكثر من حميد. يوسف وحميد كانا يلعبان حيناً، ويتشاجران أحياناً أخرى. 

قضايا وناس
التحديثات الحية

في ذلك اليوم، في 15 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عانق يوسف والده محمد قبل توجهه إلى عمله في مستشفى ناصر الطبي في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة كعادته. بسبب الحرب، تغيّرت ساعات عمل والده في المستشفى (يوم عمل في مقابل يوم راحة)، وبات عليه أن يعد 24 ساعة قبل أن يراه مجدداً. ولم يحسب المسافة كون المنزل يبعد عشر دقائق فقط عن العمل. عانق يوسف والده عند الباب وأخبره عن الساعة التي سيراه فيها مجدداً. كان جيداً في الحساب ومحباً للأرقام. لكن في كل مرة، يكون الأمر صعباً على يوسف.  
بعد حوالي ساعة، سمع محمد صوت قصف قريب من المستشفى وقيل إنه حي الأمل حيث يسكن. شعر بالتوتر وبدأ يسأل عن مكان القصف. أحدهم طمأنه. ثم اتصل بزوجته فأجابت قبل أن ينقطع الاتصال. أراحه الأمر. فلو كان القصف في منزله لما استطاعت الإجابة. اتصل مجدداً فأجابت إلا أنها كانت تصرخ. عرف هذه المرة أن القصف طاول منزله ومنزل شقيقه. 

في حضن والده (العربي الجديد)
​ في حضن والده (العربي الجديد) ​

لم يجده بين المصابين في الغرف والممرات. كان من حوله يعرف أنه استشهد وأحداً لم يرد إخباره، إلى أن أخبره مصور كان يقف إلى جانبه أنه هو من حمله إلى ثلاجة الوفيات. وهناك، رآه. للحظات، خبأ وجهه بين يديه قائلاً: الحمدلله. حميد كان هناك أيضاً، ورأى ما حدث لشقيقه. كان المشهد قاسياً عليه. صرخ في وجه والده أنه السبب في ما حدث. ما كان عليه تركهم والذهاب إلى العمل. يقول محمد إن حميد يعاني من صدمة في الوقت الحالي، ويحاول مساعدته مستعيناً بأطباء نفسيين.
لطالما كان القصف يخيف يوسف. يظهر ذلك على ملامح وجهه وحركة جسده. أطفال محمد جميعاً لم يعرفوا النوم. كلما سمعوا القصف، يحاول محمد وأمهم تهدئتهم. لم يكن في مقدورهما القيام بأكثر من ذلك. سعيا إلى إلهائهم قدر الإمكان باللعب داخل المنزل والرسم ومشاهدة أفلام الكرتون في ظل توفر الطاقة الشمسية. لكن أصوات القصف كانت مرعبة. حتى المستشفى الكبير كان يهتز. فما حال المنازل؟ 

حتى اليوم، لم يجلس محمد مع أفراد عائلته ليحزنوا معاً، علماً أن عائلته لم تغادر المستشفى بعد استشهاد يوسف. يقول إنه لا يزال تحت تأثير الصدمة، وما يهوّن عليه أنه ليس وحيداً في هذا المصاب. المشهد الذي عاشه كان يراه يومياً في المستشفى منذ بدء الحرب ولا يزال. آباء وأمهات يبحثون عن أطفالهم بين المصابين والجثث. في كل مرة كان يدعو الله ألا يجد أحداً من أفراد عائلته بين الذين تنقلهم سيارات الإسعاف إلى المستشفى. لكن... الحمدالله. 
كان يوسف صغيراً ليكون لديه أحلام، يقول والده. لكنه كان يهوى الرسم ويتدرّب على كرة القدم مع شقيقه. أما حلم الأب بالذات، فهو ألّا تذهب دماء يوسف سدى.

كان يلعب الكرة مع شقيقه (العربي الجديد)  ​
كان يحب الرسم ولعب كرة القدم (العربي الجديد) ​
المساهمون