تونس في انتظار حكومة "المعجزات"

27 أكتوبر 2019
تشكيل الحكومة سيكون مهمة صعبة (شاذلي بن ابراهيم/Getty)
+ الخط -
لا حديث في تونس إلا عن سيناريوهات تشكيل الحكومة الجديدة بقيادة حركة "النهضة"، وعن الخطوات المقبلة لرئيس الجمهورية قيس سعيّد. فنتائج الانتخابات التشريعية قلبت المشهد السياسي رأساً على عقب، والجميع ينتظر كيف ستتصرف مختلف الأطراف مع هذه المتغيرات، وهل سيكون لذلك تأثير كبير على عموم التونسيين.

انطلقت لجنة المفاوضات التي شكلها مجلس شورى "النهضة" برئاسة راشد الغنوشي في القيام بالاتصال رسمياً بالأحزاب المعنية بتشكيل الحكومة. وهي تدرك أن مهمتها لن تكون سهلة، وأن الأحزاب التي ظنت أنها ستكون قريبة منها، وتوقعت أن ترحب بالتعاون معها خلال السنوات الخمس المقبلة، لم تُبد أي حماس لذلك، بل على العكس أظهرت نفوراً من تشكيل حكومة تترأسها "النهضة" بحجة أن هذه الأخيرة تحالفت مع المنظومة القديمة، وساهمت في ترسيخ اختيارات اقتصادية زادت من إرهاق التونسيين وعمّقت نسق التبعية للخارج ولم تتصد لشبكات الفساد، مثلما يقول خصوم "النهضة". هذا ما صدر عن قياديين في كل من حركة "الشعب" وأيضاً "التيار الديمقراطي".

أظهر هذان الحزبان تصلباً ملحوظاً في نقدهما للخط السياسي لحركة "النهضة"، وطالباها بشروط اعتبرها الكثيرون تعجيزية، وهو ما أزعج النهضويين الذين أبدوا إصراراً على كونهم الحزب الفائز، وطالبوا قيادتهم بعدم التنازل عن حق الحركة في رئاسة الحكومة، ولوحوا بأنهم لا يخشون حل البرلمان واللجوء إلى انتخابات تشريعية سابقة لأوانها.


في هذه الأجواء غير المطمئنة يحاول رئيس الحركة، راشد الغنوشي، التخفيف من حدة مخاوف الجميع، وذلك بالإشارة إلى أن ترؤسه للحكومة المقبلة لا يزال احتمالاً قائماً داخل الحركة، من دون أن ينفي وجود احتمالات أخرى، وهو ما من شأنه أن يجعل مفاوضيه يشعرون بكونهم جزءا من المعادلة، وأن الرجل راغب في التوصل إلى اتفاق لا يكون فيه رابح وخاسر وإنما الجميع رابحون. وينوي الغنوشي القيام بجولة خارجية لتوفير الدعم للحكومة، التي إن نجحت "النهضة" في تشكيلها وحققت هذه الحكومة بعض مطالب التونسيين فستعيد كسب ثقة الجزء الأكبر من التونسيين.

لكن مع ذلك تبقى الأجواء بين الأحزاب مشحونة بالشكوك وعدم الثقة، وهو ما جعل "التيار الديمقراطي" وحركة "الشعب" يطالبان بأن تكون المفاوضات القائمة علنية، تحضرها وسائل الإعلام حتى يكون المواطنون شهوداً على ذلك.

وستتناول المفاوضات مسألتين على غاية من الحساسية: تتعلق الأولى بالبرنامج الذي ستلتزم به الحكومة، والذي سيأخذ بُعداً اجتماعياً وينحو منحى "ثورياً" حسبما يطالب به معظم الشركاء. لكن المشكلة الرئيسية التي ستتطلب نقاشاً معمّقاً ومسؤولاً تتعلق بكيفية توفير الأموال الضرورية لتنفيذ المشاريع المقترحة، ولتغطية العجز الذي تشكو منه الميزانية المقترحة لسنة 2020. وفي هذا السياق، ستبرز معضلة الدين الخارجي الذي يشكل الشبح المهيمن على تونس، إذ أصبح الجزء الأكبر من أي قرض جديد سيوجه مباشرة لتغطية فوائض الديون السابقة.

أمّا المسألة الثانية التي ستتناولها المفاوضات بين الأحزاب المعنية بتشكيل الحكومة، فتتعلق بمن سيكون مرشحاً لرئاسة الحكومة، ومدى استعداد "النهضة" للتنازل عن بعض الوزارات الحساسة لشركائها، خصوصاً الوزارات الحساسة مثل الداخلية والعدل اللتين سبق لـ"التيار الديمقراطي" أن طالب بهما، واعتبرهما إلى جانب وزارة الوظيفة العمومية والإصلاح الإداري شروطاً أساسية للدخول في الحكومة. وعلى الرغم من رفض فكرة المحاصصة الحزبية بحجة أنه قد تم اعتمادها خلال المرحلة السابقة وكانت آثارها سلبية، إلا أن المفاوضات الجارية حالياً ستعتمد بالضرورة على مسألة توزيع الحقائب بين الأحزاب المشاركة.



نظراً لكون تشكيل حكومة ائتلافية جديدة ستكون مهمة صعبة، هناك توجه نحو الاستنجاد برئيس الدولة الذي عبّرت معظم الأحزاب عن ثقتها في حياديته ونزاهته وثوريته. وقد استقبل قيس سعيّد غالبية قادة الأحزاب الممثلة في البرلمان، وفي مقدمتهم الغنوشي. وإذ اكتفى أغلبهم بشرح وجهة نظرهم حول هذه المسألة، إلا أن حركة "الشعب" انفردت بمقترح أثار جدلاً بين خبراء القانون الدستوري. ويتمثل هذا المقترح في أن يتولى رئيس الجمهورية تكوين ما سمي بحكومة الرئيس. وليس المقصود من ذلك تشكيل حكومة يتولى هو رئاستها، وإنما أن يقوم هو برعايتها واقتراحها مستغلاً الشرعية القوية التي أوصلته إلى البرلمان وجعلت منه "رئيساً استثنائياً"، وبذلك يخرج البلد من المأزق الراهن، وينقذ الجميع من السقوط في الوقت الضائع.

ومن المتوقع أن ترفض "النهضة" هذا المقترح على الأقل في الوقت الراهن. إذ تعتبر نفسها المعنية أكثر من أي وقت آخر بتشكيل الحكومة. كما أنه يستبعد أن يقدم سعيّد على أي مبادرة تتعارض مع الدستور شكلاً ومضموناً، ولهذا السبب قام برفض الفكرة من أساسها. لكن المؤكد أن موقعه يجعل منه مرشحاً للقيام بأدوار تتجاوز صلاحياته الدستورية، وذلك نظراً للبعد الرمزي الذي يتمتع به والذي جعله فوق الأحزاب من جهة، وقريبا من المواطنين من جهة أخرى.

هناك عقبات عديدة تقف أمام تشكيل الحكومة، ولا يعرف إن كانت "النهضة" قادرة على تذليلها أم أنها ستضطر في النهاية إلى رمي المنديل الأبيض. ستستعمل أوراقا عديدة للتوصل إلى توافق مشرف، لكن النتيجة غير محسومة. وتبقى مع ذلك المشكلة الأعقد من القيام بالتنازلات وتوزيع الحقائب، وهي تتمثل في مدى قدرة الحكومة المقبلة على معالجة الملفات الاقتصادية والاجتماعية الحارقة المطروحة بالجملة، وذلك في مرحلة يتهيأ فيها الاتحاد العام التونسي للشغل لخوض معركة كسر عظم ضد كل سياسة تطالب العمال بمزيد من التضحيات.